يعكس وجود العاصمتين السياسية والاقتصادية لموريتانيا على شاطئ المحيط الأطلسي الأهمية الكبيرة التي يحتلها قطاع الصيد البحري، ثاني أكبر القطاعات الحيوية بعد القطاع المعدني، في اقتصاد البلاد التي اعتمدت منذ استقلالها على مصادرها البحرية الغنية للنهوض باقتصادها المحلي الهش. وإذا كانت عوامل كثيرة قد تضافرت لتجعل من موريتانيا بلداً غنياً بالموارد البحرية، فلا تزال عوامل أخرى تعيقها حتى الآن الاستفادة المثلى من ثرواتها البحرية.
إمكانات مهدورة
يمتد الشاطئ الموريتاني على طول سبعمائة كيلومتر. وتلتقي في المياه البحرية التيارات البحرية التي تتحرك عبر الأعماق ولاسيما تيار الكناري البارد وتيار الإكوادور الساخن؛ حيث يحمل هذان التياران العوالق البحرية والنباتية ما يشكل بيئة مواتية لتكاثر الأسماك وجذب أنواع سمكية مهاجرة. وتبلغ مساحة المنطقة الاقتصادية الخاصة بالصيد 230 ألف كيلومتر مربع، إضافة لوجود جرف قاري بمساحة 39.000 كلم مربع.
كلّ هذه العوامل هيأت الشواطئ الموريتانية لتتصدّر مرتبة متقدمة بين الشواطئ الأكثر ثراء بالأسماك والأحياء البحرية حول العالم. فيعيش في مياهها حوالى 170 صنفاً من الأسماك والكائنات البحرية القابلة للتسويق، لعل أهمها: الأخطبوط، الحبار، الجمبري، سمك موسى، سمك الترس، تونة البحر، السردين، سمك البوري الأصفر والأسود، جراد البحر، الحلزون. إلى جانب أنواع نادرة من الدلافين وشيخ البحر والعقارب البحرية. وفي نواكشوط العاصمة، يُبحر ثلاثة آلاف وسبعمائة قارب صيد تقليدي صباحاً في رحلة البحث عن الأسماك، وعلى متنها عشرات آلاف من الصيادين الموريتانيين والأفارقة. وتختلف نسبة المحصول اليومي من الأسماك فتتراوح بين 500 طن و 150 طن يومياً.
أما السفن الأجنبية العاملة في مجال الصيد في المياه الإقليمية الموريتانية، فقد بلغ عددها عام 2011 قرابة 344 سفينة موزّعة بين بلدان الاتحاد الأوروبي وشرق آسيا. وتوضح الإحصاءات الحكومية التباين الكبير بين مساهمة الأساطيل الأجنبية والأسطول الوطني في إيرادات ميزانية الدولة حيث تبلغ الأولى 66% فيما لا تتعدى الثانية نسبة 6%؛ ما يعكس سيطرة الأساطيل الأجنبية على قطاع الصيد على حساب الصيادين المحليين الذين يعانون نقص الإمكانات ومنافسة السفن الأجنبية. وتشير تقديرات رسمية إلى أن حوالى 95% من الأسماك الموريتانية تُصدّر إلى الخارج فيما لا توجّه إلى الأسواق المحلية إلا كميات قليلة من الأنواع السمكية الرخيصة.
ويرى الباحث يحيى سيدي أحمد مدير مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية أنه "بالرغم من وجود أكثر من 250 نوع من الأسماك المعروفة عالمياً، لا يتمّ إلا صيد أنواع محدودة، فالصيادون المحليون يركزون على تسويق السمك المثلَّج الذي يقوم به حوالى 70% من الناشطين في الصيد التقليدي، بينما يختص الأجانب بما له قيمة مُضافة، أي تصنيع السمك حيث يوجد 30 مصنعاً لإنتاج دقيق السمك وزيوته يعمل فيها 3,000 أجنبي، وهذا عدد كبير مقارنة مع العاملين في مجال الصيد التقليدي عموما الذين يناهزون 40,000 لا يعمل منهم في مجال الصيد الصناعي إلا بضع مئات". ويبلغ حجم الصادرات الموريتانية من الأسماك إلى الأسواق الأوروبية والصينية واليابانية 600 ألف طن سنوياً وتقدّر قيمتها بحوالى 350 مليون دولار سنوياً. وقامت الحكومة الموريتانية بإنشاء شركات مختلطة للصيد مع عدد من البلدان، من بين هذه الشركات الموريتانية الروسية، الجزائرية، الليبية، الرومانية.
ويعود أول انتعاش حقيقي لقطاع الصيد في موريتانيا إلى بداية عقد السبعينيات مع إنشاء أول أسطول وطني، حيث وصل حجم المحاصيل السمكية مئة ألف طن. وقد تضاعف هذا الحجم في العقد الأخير بمعدل 14 مرة، كما تضاعفت مساهمة قطاع الصيد في الناتج القومي الخام من 4% عام 1980 إلى 10% عام 1985. ومنذ تسعينيات القرن الماضي، عرف قطاع الصيد البحري تطوراً كبيراً عندما بدأت السفن الأوروبية والروسية والصينية واليابانية عمليات الصيد المكثفة في المياه الإقليمية الموريتانية.
النزيف الأطلسي
انعكس فتح المجال البحري أمام السفن الأجنبية سلباً على الثروة البحرية الموريتانية التي تعرّضت لعمليات استنزاف خطيرة. وشكّل غياب الرقابة البحرية وضعف إمكانات الدولة وتذبذب الأوضاع السياسية والاقتصادية فرصة للأساطيل الأجنبية لتنهب الثروة السمكية. ولعلّ أبرز الأمثلة على عمليات الاستنزاف، الاتفاق الموقع بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي عام 1996 الذي سمحت بموجبه الحكومة لأربعين باخرة أوروبية بصيد رأسيات الأرجل في المجال البحري الموريتاني. إلا أن انعدام الرقابة البحرية وضعف الإدارة المحلية أدى إلى استنزاف الثروة السمكية الموريتانية وفقدان 80 % من الكتلة الحيّة للأخطبوط خلال هذه الفترة. وتواصلت عمليات الاستنزاف مع دخول الآسيويين إلى السوق ما ضاعف حجم الأضرار المترتبة على خرق قوانين الصيد. ولكن احتدام المنافسة بين الأوروبيين والآسيويين أنعش الاقتصاد البحري مجدداً.
وقد بلغت عائدات الصيد عام 2011 حوالى 300 مليون دولار، ثم تسجل تراجعاً متأثرة بتبعات الأزمة المالية العالمية قبل أن تعاود الصعود. وفي الوقت الراهن، يقدّر حجم الصادرات الموريتانية من الأسماك إلى الأسواق العالمية بـ600 ألف طن سنوياً وتصل قيمتها إلى حوالى 350 مليون دولار سنوياً.
رؤية جديدة
في إطار الجهود لتعزيز هذا النشاط الاقتصادي ولتفادي استنزاف الثروة السمكية، فرضت السلطات الموريتانية راحتين بيولوجيتين خلال العام، لمدة ثلاثة أشهر بهدف السماح للكائنات البحرية بالتكاثر وحماية البيئة البحرية.
ويوضح رئيس مجلس إدارة ميناء خليج الراحة بنواذيبو نور الدين سيدي عالي فرانسوا أنه "منذ وصول الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز إلى السلطة، انتهجت موريتانيا سياسة جديدة تهدف إلى تعزيز مكانة الصيد ودمجه في الاقتصاد الوطني". ويضيف نور الدين في حديث لرصيفـ22 "عملت الدولة في السنوات الأخيرة على استحداث مراكز للتكوين المهني في مجال الصيد، وتوجيه المنتجات السمكية إلى المناطق الداخلية، عبر القوافل ونقاط التوزيع المجانية للأسماك، أو بيعها بأسعار رمزية". ويتابع قائلاً إنّ السلطات الموريتانية "فرضت تفريغ حمولة السفن الأجنبية في موانئ موريتانية، واستحداث وحدات للتصنيع المحلي للمنتجات السمكية ومشتقاتها، وتخصيص 60% من فرص العمل على متن سفن الصيد لليد العاملة الموريتانية، وامتلاك الدولة لنسبة من التجهيزات المستخدمة في الصيد".
وتأتي هذه الترتيبات في سياق توجه حكومي جديد يهدف مراجعة السياسات المتبعة في مجال الصيد، لاسيما بعد هبوط أسعار الحديد الخام في الأسواق العالمية؛ أمرٌ دفع الدولة إلى البحث عن بدائل جديدة.
أهمية اقتصادية متنامية
يغطي الصيد الصناعي ما بين 30 إلى 40% من احتياطات موريتانيا من العملة الصعبة ويساهم بنسبة 25% في ميزانية الدولة، وبنسبة 10% في الناتج القومي الخام، ويمثل ما بين 35 و50% من حجم صادرات البلاد. وتقدّر الاحصاءات شبه الرسمية، أن حوالى مائتي ألف أسرة موريتانية تعيش على الاقتصاد البحري، إلا أن السلطات تطمح إلى مضاعفة هذا العدد في السنوات القليلة القادمة، كما تسعى إلى زيادة اليد العاملة في قطاع الصيد التقليدي من 40 ألف عامل إلى 80 ألفاً.
ويتكون الأسطول الموريتاني حالياً من 350 سفينة، إلا أنّ عدم وجود موانئ واسعة، وصعوبة النقل الجوي في نواذيبو يعقّد عمليات التصدير. وتحتكر الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك التي أنشئت عام 1984، تصدير الأسماك المجمدة إلى الخارج، وتتولى تنظيم المعاملات التجارية بين الشركات المحلية والعملاء الأجانب، كما تشرف على تحديد الأسعار والتحقق من الأنواع السمكية التي يجري تصديرها محلياً، رغم ما يشوب هذه العملية من تحايل وفساد حسب عاملين في القطاع.
آمال مشوبة بالمخاوف
في العاشر من يوليو 2015 وقعت موريتانيا والاتحاد الأوروبي على تجديد اتفاقية الصيد لأربع سنوات جديدة بعد جولات شاقة من المفاوضات استمرّت لأكثر من عام، وحافظ الاتفاق على الشروط الموريتانية المتعلقة بمنع صيد الأخطبوط والسّردين على السفن الأوروبية وإجبارها على تفريغ حمولتها في الموانئ الموريتانية. كما قضى الاتفاق بخفض الكميات السمكية المسموح للأوروبيين بصيدها من 300 طن إلى 225 طناً. كما ضمّ الاتفاق بنوداً تدعم العمالة الموريتانية على السفن الأوروبية، وتفرض ضرائب وزيادات في الأسعار لبعض الأنواع السمكية؛ ما تعتبره الحكومة الموريتانية تطوراً مهماً في سياساتها الاقتصادية الجديدة.
ورغم الانجازات، لا يزال غياب تقاليد الصيد في المجتمع الموريتاني، وضعف إمكانات البلاد في مجالي البنية التحتية الصناعية والكفاءات الوطنية، وعدم فعالية الرقابة البحرية، تشكّل عائقاً كبيراً أمام النهوض بقطاع الصيد إلى جانب استشراء الفساد الذي يتجسّد في صيد الأنواع المحرمة، وانتهاك المياه الإقليمية الموريتانية، وانتشار الرشوة والتهرّب الضريبي والممارسات الضارة بالبيئة.
ويشدّد خبراء اقتصاديون على ضرورة تعزيز البنية التحتية التصنيعية للمنتجات السمكية من أجل زيادة قيمتها المضافة، ومضاعفة فرص التشغيل، وامتصاص البطالة، لكن منافسة العمالة الأجنبية الإفريقية في هذا المجال تحد من استفادة الموريتانيين من فرص العمل رغم جهود الدولة للحد من العمالة الأجنبية، ورغم كل هذه الصعوبات فإن بعض المراقبين يميل إلى الاعتقاد بأن السياسة الحكومية في مجال الصيد بدأت تسير في الطريق الصحيح، وإلى أن تحقق هذه السياسية أهدافها فإن الموريتانيين يختصرون واقع الصيد في بلادهم بالقول: إن موريتانيا لا تزال تبيع الحديد لتجلب السيارات وتصدر السمك لتستورد السّردين!