حاول رسم مدينة حب، باحثًا عن بلاد تسمح له أن يمارس فعل الهوى، ككل العصافير فوق الشجر، طالبًا من حبيبته أن تكون جريئة وتختار الموت فوق صدره أو فوق دفاتر أشعاره، وصف نفسه بأنه مفضوح بالعشق وأن عشيقته مفضوحة بكلماته، وأنه طالما يمتلك حبيبته فهو القيصر، الذي ﻻ يتقن من مهن الدنيا سوى الحب، طالبًا من المرأة الشرقية أن تثور على شرق السبايا والتكايا والبخُورِ والتاريخ ،إنه الشاعر السوري نزار قباني، من يوافق اليوم الموافق 30 إبريل ذكرى وفاته.
عاشق مناصر للمرأة وللحب، غرست الأحداث التي عايشها في حياته الشعر والحب في نفسه، فخلال طفولته انتحرت شقيقته، بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تكن تحبه، ليصبح ذلك الحادث سلاح يقاوم به نزار مع المرأة الشرقية كي تحقق ذاتها، قائلًا عن موت أخته "صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي".
ولد نزار في سوريا في دمشق القديمة، 21 مارس عام 1923، كان منزلهم يمتلئ بالزروع الشامية من زنبق وريحان وياسمين، وهو ما خلف في نفسه حب الرسم، وكذلك عشق الموسيقى، وخاصة العزف على العود، ثم وجد الشعر طريقه إلى روح نزار، فبات يحفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة، وطرفة ابن العبد، وقيس بن الملوح، وتتلمذ على يد الشاعر خليل مردم بك.
شاعر إباحي.. حصل نزار على هذا اللقب بعد صدور أولى دواوينه والتي حملت اسم "قالت لي السمراء" طبعه القباني على نفقته الخاصة، ذلك أثناء دراسته في كلية الحقوق بجامعة دمشق، فيقول نزار في قصيدة :
قالتْ لي السمراءْ
هل آن لكَ أن تواجه حقيقة القدرْ
دونما التفاتة للوراء .. أو هذَرَ
من الألقاب التي حصل عليها قباني هي الدبلوماسي فبعد تخرجه من من كلية الحقوق بجامعة دمشق التحق بوازرة الخارجية السورية، وعين في السفارة السورية بالقاهرة، وعٌين عام 1952 سفيرًا لسوريا في لندن لمدة سنتين، ثم في أنقرة، وعام 1958 عين سفيرًا لسوريا في الصين لمدة عامين. وعُين سفيرًا لسوريا في مدريد لمدة 4 سنوات.
بعد هذا المشوار من العمل الدبلوماسي أعلن نزار تفرغه للشعر في عام 1966 واستقر بلبنان، وأسس دار نشر خاصة به تحمل اسم «منشورات نزار قباني».
طالب بعض رجال الدين في دمشق قتله، بعد أن نشر القباني قصيدته «خبز وحشيش وقمر» والتي تسببت في جدل كبير، يقول فيها:-
في بلادي..
في بلاد البسطاء..
حيث نجتر التواشيح الطويلة..
ذلك السل الذي يفتك بالشرق..
التواشيح الطويلة..
شرقنا المجتر..تاريخاً
و أحلاماً كسولة..
و خرافاتٍ خوالي..
شرقنا, الباحث عن كل بطولة..
في أبي زيد الهلالي..
للأحداث الجسام التي مر بها نزار أثرها في نفسه وفي شعره، فتزوج مرتين، زوجته الأولى كانت ابنة خاله أنجب منها هدباء وتوفيق، توفي توفيق عام 1973 وكان طالباً بكلية طب جامعة القاهرة في السنة الخامسة، ونعاه والده بقصيدة "الأمير الخرافي توفيق قباني" وتوفيّت زوجته في عام 2007.
أما زوجته الثانية فيه العراقية بلقيس الراوي، التي التقى بها في أمسية شعرية ببغداد، أنجب منها عمر وزينب، قصة حبهما ذاع صيتها وخاصة بعد أن ﻻقت حتفها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في حادث انفجار السفارة العراقيّة في عام 1982، وفي رثاها كتب نزار بدموعه قصيدته "بلقيس".
فيقول نزار:-
شكراً لكم ..
شكراً لكم . .
فحبيبتي قتلت .. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده
وقصيدتي اغتيلت ..
وهل من أمـةٍ في الأرض ..
- إلا نحن - تغتال القصيدة ؟
بلقيس ...
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس ..
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي ..
ترافقها طواويسٌ ..
وتتبعها أيائل ..
بلقيس .. يا وجعي ..
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل.
قرر نزار بعد مقتل بلقيس مغادرة لبنان، متنقلًا بين باريس وجينف، ليستقر به المطاف في لندن، ويمضي بها أخر خمسة عشرة عامًا بحياته، وكان ينشر قصائده من هناك، ومن أشهر قصائده التي أثارت الجدل في تلك الفترة قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب"، والتي كان يقول فيها.
أنا منذ خمسين عاما
أحاول رسم بلادٍ
تسمى مجازا بلاد العرب
رسمت بلون الشرايين حينا
وحينا رسمت بلون الغضب.
وحين انتهى الرسم، ساءلت نفسي:
إذا أعلنوا ذات يومٍ وفاة العرب...
ففي أي مقبرةٍ يدفنون؟
ومن سوف يبكي عليهم؟
وليس لديهم بناتٌ...
وليس لديهم بنون...
وليس هنالك حزنٌ،
وليس هنالك من يحزنون!!
ومن تحت الماء استمعنا إلى رسالته، على ألحان وصوت العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ في قصيدة "رسالة من تحت الماء"، وكذلك قرأ له قصيدة "قارئة الفنجان"، كما غنت له كوكب الشرق أم كلثوم قصيدة أصبح عندي الآن بندقية، ورسالة عاجلة إليك، وغنت نجاة الصغيرة أيظن، وفايزة أحمد غنت قصيدة رسالة إلى امرأة، وغنت له جارت القمر فيروز قصيدة لا تسألوني ما اسمه حبيبي، واستمعنا إلى قصيدة كلمات من صوت ماجدة الرومي، وطلبت أصالة من حبيبها أن يغضب في قصيدة أغضب.
ومن أشهر من غنى لأشعار نزار هو الفنان كاظم الساهر، ومن بين القصائد التي غناها له هي :”مدرسة الحب، قولي أحبك، أكرها، إني خيرتك فأختاري، حافية القدمين، أجلس في المقهى، إلى تلميذة، أحبيني بلا عقد".
وفي يوم 30 إبريل عام 1998 أراد الله أن ينهي عمر نزار، وينتهي معه الإبداع، فتوفي عن عمر يناهز 75 عامًا بلندن، على أثر أزمة قلبية، ويدفن في دمشق تنفيذًا لوصيته.