ول داداه كاسْ انْدر .. فأين يذهب الآخرون؟

ثلاثاء, 2015-08-04 12:51

كنت أظن أن أمام نخبنا من المشكلات الجمة والتي تلقي ببلادنا في وهدة الخمول والتخلف ما يتطلب التفكير الجدي في حلول ناجعة وسريعة تنقذ إنسان هذا البلد وتنميته،

وتقنع المواطن العادي بأن هذه النخب قد شدت الأحزمة إيذانا بانطلاق مرتون البناء والتحول ..

طبعا قد لا يتبادر للسذج من أمثالي أن تغيير النشيد والعلم الوطنيين قد يجدي نقيرا أو يمثل حلا مؤقتا أو أبديا لبعض المشكلات التي تأخذ تلابيبنا وتضيق علينا الخناق، ومن هنا فإن معرفة الحكمة من المطالب المتعلقة بهذين الرمزين تبقى حكرا على أولياء الله الصالحين الذين ليس لنا نحن معاشرَ السذج تسلط على مقامهم. 

 

ما الذي جناه نشيدنا الوطني علينا حتى نقلب له ظهر المجن ونرمي به في سلة المهملات ؟! ما هي الجريرة التي جرها علينا علمنا الوطني حتى نتنكر لألوانه الزاهية ولرقصته البِدع التي تثير فينا شعورا جميلا؟ ربما هو الشيء الوحيد الذي يجمعنا دون أن نرتب للاجتماع.

هل هو الهروب والتولي يوم الزحف على الفساد والمفسدين للاشتغال بأشياء تافهة في مظهرها خطيرة في جوهرها، إننا معاشر السذج قلقون من هذه المطالب التي نشتم منها رائحة التخلي عن الثوابت والاستهتار برموز الدولة وشعاراتها المحترمة.

ما الذي سنفعله بذكريات جيل من أبناء هذا الوطن ساير نشأة الدولة؟ وكان يرى استقلال موريتانيا ومساحتها وعلمها ونشيدها توائم لا يمكن الفصل بينها حتى ولو أُدخلت أرقى مشافي التنظير النخبوي الذي مرد أصحابه على بناء جدران الفصل بين الوطن وحقه وبين المواطن وهويته ؛ وكأنهم لم يكتفوا بذلك فتاقت أنفسهم إلى اجتثاث آخر نبتة تنعش وجداننا بمعان قزحية جميلة ليس معنى الاستقلال أقلها شأنا.

 

ما الذي سنفعله بذكريات ذلك الجيل وبذكريات أجيال بعده يذكرها العلم الوطني ويذكرها النشيد بأحداث جلى فارقة؟ منها المفرح ومنها المحزن، منها الانتصارات وفيها الهزائم، فيها الاستقلال ومنها الانقلابات...

لقد كانت فوارق اللون والثقافة والمادة تختفي بمجرد سماع النشيد الوطني؛ فيدرك العامة كما الخاصة أن هناك شيئا ما يستوي الجميع في التطلع إلى معرفته في لحظة فريدة من الانسجام العفوي العجيب. 

بربكم لا تحرمونا تلك اللحظة التي ستتأجل كثيرا ونحن نتدرب ونمرن حواسنا لكي تعقل نشيدكم الجديد الذي تبشرون به والذي سيحتاج وقتا ليجد له مكانا في ذاكرة جمعية سكنها النشيد الوطني نصف قرن.

دعونا مما ينتقده البعض على نشيدنا الوطني من كونه نشيدا دينيا لا يمجد الوطن ولا يتغنى بالأمجاد.. إنها كلمة "باطل" أُريد بها باطل ، فبالدين تتعزز الوطنية وبه يتحقق المجد؛ وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "كنا قوما أذلاء فأعزنا الله بالإسلام فلو طلبنا العزة في غيره أذلنا الله".

 

إن الكثير منا لا يعرف كلمات النشيد الوطني أحرى دلالاته ومعانيه ولكنه يوقظ في نفسه الشعور الوطني ويستثير فيه الحماس والتوثب تماما مثلما يفعله النشيد الوطني الجزائري بالجزائرييبن الذين لا يعرف جلهم كلمات ذلك النشبد، تلك الكلمات الحارة والمتدفقة بمعاني وقيم الجهاد والتضحية .

 

من هنا يمكن القول إن تعلق أي شعب بنشيده الوطني هو تعلق بالعزف قبل كلمته وبالكلمة قبل فحواها وربما نحتت الشعوب من نسج خيالها كلمات توافق العزف الموسيقي وتبتعد كل البعد عن كلمات أناشيدها الوطنية الأصلية؛ وتلك ممارسة شعبية جماهيرية عريقة تحترف سلب الأعلام دلالتها، وللشعوب العذر في ذلك فقد اختلف الأُدباء ـ وهم من هم ـ في تفسير سجع الحمام حتى قالوا:

 

لقد غنى الحمام لنا بلحن  إذا أصغى له ركب تلاحى

شجا قلب الخلي فقال غنى وبرَّح بالشجي فقال ناحا

 

منّا من يعرف أن كلمات نشيدنا الوطني هي:

كن للإله ناصرا وأنكر المناكرا

وكن مع الحق الذي يرضاه منك دائرا .....

 

ومنا من يعتقد أن كلمات نشيدنا الوطني هي:

ولْ داداه ْكاسْ انْدرْ جابْ ازْكيبَ من لبعرْ

كسَّمْهَ اعْلَ جنْدرْ وابَّليسْ اتْحَنْكرْ

 

وإذا كان لكلمات الشيخ سيدي باب (الرجل المشهور ببعد النظر) بعدها السني التوحيدي ودعوتها إلى التزام مذهب السنة والجماعة ونظرها بطرف خفي إلى ما صرنا إليه من التشرذم شيعا وطوائف مقدمة الحل الأمثل:

وكن لقوم احدثوا  في أمره مهاجرا

قد موهوا بشبه واعتذروا معاذرا

 

فإن للكلمات الشعبية التي فسر بها العامة نشيدنا الوطني إيحاءات ودلالات عميقة تحيل إلى نشأة الدولة وإلى الجهود التي بذلت من أجل نقل السلطات من سينلوي إلى انواكشوط، وربما نظرت المخيلة الشعبية من ستر رقيق إلى ما ستشهده الدولة في مراحل لاحقة من قمع للحريات على أيدي رجال الأمن: (وابَّليسْ اتْحَنْكرْ).

 

و إذا كان المختار ول داداه ـ رحمه الله ـ قد تنقل مرارا إلى السينغال وإلى دول أخرى في محاولة بناء الدولة الموريتانية التي من مقوماتها نشيدها وعلمها أو ليأتي بـ (ازْكيبَ من لبعرْ) على حد زعم الخيال الشعبي فأين سيذهب هؤلاء الذين يريدون تغيير علمنا ونشيدنا؟ وبما ذا سيأتوننا؟ لاشك أننا اليوم نتوق لـ (ازْكيبَ من لبعرْ) لأننا جميعا أصبحنا (نلتقط البعر). 

 

إن علمنا الوطني ونشيدنا هما مال عام تجب مناهضة من يتعرض له تحت أي مسوغ أو أية ذر يعة. 

أتذكر أننا صدمنا ذات مرة لما غيرت الإذاعة اللحن المميز لنشرة الأخبار واستبدلته بآخر قطع المألوف وجلد الآذان ولم يستطع تخليصنا من أسر اللحن الأول الذي يذكرنا ـ فيما يذكرنا ـ بالبراءة والطفولة والتلهف السطحي لمعرفة أخبا ر مجزرة صبرا وشاتيلا وأخبار حرب الخليج الأولى وأشياء أخرى محلية تستثير فضولنا الصبياني آن ذاك . فهل تتصورون حجم الكارثة حين يُغير علم ونشيد أصبح لداتُهما أبناء الخمسين؟

 

لست ممن ينطلق في تصوراته من نوازع ذاتية لكنني أعرف أن فتح المجال لتغيير النشيد الوطني سيكون هدية منقطعة المثال لدعاة المحاصصة وردم الميزات التراثية، وسبيلا إلى جعل الثوب الوطني مرقعة يسعى كل طيف إلى أن يكون الأكثر حضورا فيها وإن لم يسعفه التاريخ ولا الجغرافيا، وهذا حقه ففي بداية تشكل الأوطان لا ينبغي لطيف أن يعطى الدنية في وطنه، إن نشيدنا الحالي قائم على ثغر من ثغور وحدتنا لا ينبغي أن نفرط فيه بحثا عن نشيد سيتطلب اتفاقنا عليه ثمنا قد ندفعه من وحدتنا، وكما يقول الشيخ ولد مكي:

(دبِّيتَ حاصلْ ماهُ كيفْ      دبِّيتَ ماهُ محصَّلْ).

 

أخيرا ماهي الشية التي ستهدونها إلى المغتربين الذين يحرقهم الحنين إلى وطن ناموا عنه ذات ليلة وشيته وعلامته هلال ونجمة بلون الرمال الذهبيية في مساحة بلون الخصب؛ إنه العلم الوطني الذي قال فيه أحد المغتربين (لمغنين) وقلبه يتفطر حنينا عفويا صادقا:

متْمنِّ ميتتْ ذ اشْهرْ وانْكافِ شورْ أوطانِ

وانْشوف انجْمَ واشهرْ علامتْ مورتانِ.

 

                                                                  الأديب المعروف

                                                                     التقي ولد الشيخ