أعاد عرض فيلم "المتطرف"، للمخرج الموريتاني سيدي محمد ولد الشيقر، إحياء النقاش حول دور المحظرة (المدرسة الدينية التقليدية) في موريتانيا في دفع الشباب إلى أحضان الحركات الإرهابية.
يرى البعض أن مناهج المحاظر تحض على كراهية الاَخر في حين يرى آخرون أن هذا الاتهام مبالغ فيه. بعد عرضه، قوبل الفيلم بموجة غضب من محتواه ومن مخرجه. اعتبر البعض أنه يشوّه المحظرة، وعدّه بعض آخر عملاً جيداً يعالج إشكالية مهمة ويشكّل تطوراً جيداً في مشوار الإبداع الموريتاني.
ماذا قال الفيلم وصانعه؟
يحكي الفيلم في عشر دقائق، قصة شاب عشريني مستهتر أقلقت تصرفاته أهله فأرسلوه إلى محظرة بغية إصلاحه، ليبدأ رحلة مليودرامية يتعرض خلالها للاغتصاب من أحد طلاب المحظرة، ثم يتعرف على مجموعة من الشباب المتطرفين الذين ينجحون في تجنيده بواسطة كلمات زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. يعود الشاب إلى أهله في ثوب المتطرف المكفِّر، ويبدأ بانتقاد استماعهم للموسيقي وتعليقهم لوحات فنية، قبل أن يقبض عليه في اشتباك بين الأمن وإحدى الجماعات المتطرفة.
وقال مخرج الفيلم سيدي محمد ولد الشيقر لرصيف22: "في الأساس، الفيلم كان مشروعاً وثائقياً من وحي مقابلتي قاصرين تعرّضا للاغتصاب في إحدى المحاظر، وكانا مستعدين للظهور فيه، هذا بالإضافة إلى أحداث أخرى مشابهة سمعت عنها. لكن لأنهما قاصران، عدلت عن الفكرة، وحولته إلى فيلم روائي قصير". وأضاف: "الفيلم عبارة عن صرخة إلى السلطات للالتفات إلى العشوائية في المحاظر التي جعلت المحظرة تفقد طابعها التعليمي، وكذلك دعوة لتجديد المناهج التي عفا عليها الزمن وهي فكرة أرى أنها ضرورية. أظن أن الذين هاجموا الفيلم لم يفهموه أو لم يشاهدوه، فهو لا يقصد تشويه المحظرة، وعموماً أتمنى منهم أن يتقبلوا الاَراء المختلفة إن كانوا يريدون حقاً تقدم الدولة وازدهارها".
حديث معاد
فيلم المتطرف ليس أول فيلم موريتاني يتناول المحظرة وعلاقة الشباب بها ويثير الجدل. فقد سبقه فيلم "صديقي الذي اختفى"، وهو فيلم وثائقي من 13 دقيقة، أخرجه زين العابدين محمد المختار، وقدم فيه قصة صديق طفولته وزميل دراسته الذي شهدت حياته انقلاباً كبيراً، إذ انتقل من مغرم بكرة القدم والحياة إلى شاب متطرف.
سرد الفيلم تغيّر علاقة الشاب بمحيطه وأصدقائه وعائلته والأشياء بشكل عام، عبر شهادات لأصدقائه. الشاب ترك المدرسة الثانوية بعد أن فقد حبه للدراسة وتغيرت نظرته للحياة وأصبح يتحاشى حضور الدروس التي تلقيها معلّمات وقطع صلاته بأصحابه. ثم ذهب إلى المحظرة وخرج منها أكثر تشدداً ونفوراً من محيطه، قبل أن يختفي. وقد أثار الفيلم حين صدوره موجة شديدة من الانتقاد من قبل شيوخ المحاظر وأئمة المساجد والعلماء والتيار الإسلامي، واتهموه بأنه يتجنّى على المحظرة حين يصوّرها كمعسكر لإنتاج معتنقي الفكر التكفيري القتالي.
ما هي المحظرة وماذا يدرّس فيها؟
المحظرة مدرسة دينية تقليدية تتبنّى منهجاً دراسياً يعتمد على الحفظ والتلقين وقد عرفت تاريخياً بكونها مكاناً لتدريس القرآن وعلومه والعقيدة وعلوم الحديث والفقه والنحو والصرف واللغة والأدب وعلم العروض والمنطق والبيان، ولا تزال تلعب الدور نفسه. وقد اختلفت المحاظر في الفضاء الموريتاني حول المنطق، فمنها مَن حرّمته ومنعت تدريسه، ومنها مَن أجازته.
في مداخلة بعنوان "جذور العنف في الفقه الإسلامي"، ألقيت في المؤتمر الدولي لمحاربة الإرهاب الذي عقد قبل عامين في العاصمة الموريتانية نواكشوط، قدم الباحث في الفكر الإسلامي محمد المهدي ولد البشير نقداً لكتاب "المختصر" لخليل بن إسحاق الجندي الذي يعد من أهم كتب المحظرة. أشار إلى أن فيه ما يدعو إلى التعدي على الآخر، وطالب بمراجعة بعض الأمور ومنها إشكالية الجهاد، وقال إنه يخشى أن الفقهاء الذين يعتبرون أن الجهاد للدفاع وليس للهجوم منهزمون في موريتانيا، ولفت إلى أن "مختصر خليل" يعتبر "أن الجهاد في أهم جهة كل سنة واجب على سبيل الكفاية"، أي أنه يجب أن نقوم كل سنة بحملات توسعية لاحتلال أراضي الاَخرين.
وأكّد ولد البشير أن خليل يقول إنه يجب دعوة غير المسلمين إلى اعتناق الإسلام وإذا لم يدخلوا الإسلام يُدعون إلى دفع الجزية وإذا لم يدفعوا الجزية أو كانوا في مكان لا تصلهم سلطة المسلمين، على الأخيرين قتالهم. وأضاف أيضاً أن خليل يعتبر أنه على غير المسلمين أن يهانوا حين تؤخذ منهم الجزية.
وسبق أن قام الناشط الحقوقي الموريتاني بيرام ولد الداه ولد أعبيدي بحرق بعض الكتب والمتون التي تدرس في المحاظر الموريتانية معتبراً أنها ترسخ الرق ووصفها بأنها كتب نخاسة، ليسجن بعدها لفترة ويطلق سراحه، وهو الاَن سجين في قضية أخرى.
مدافعون عن المحظرة
ربط المحظرة بالتطرف ووصف منهاجها بأنه يبث الكراهية ويحرّض على الاَخر لا يروقان للكثيرين. هؤلاء يرون أن المحظرة كانت جزءاً أصيلاً من هوية موريتانيا ومنها خرجت ثقافتها ونشأ أدباؤها وعلماؤها.
وقال الكاتب الموريتاني محمد عبد الله ولد لحبيب لرصيف22 إن "إحدى مسلمات علم النفس التروبي هي أن المناهج ليست المسؤولة عن صياغة الشخصية، كامل الشخصية، وأنما مكون من مكونات عدة". برأيه، أثبتت الدراسات التي أجريت في أكثر من بلد أن التعليم يلعب دوراً هامشياً في جنوح الشباب إلى اعتناق الأفكار المتطرفة، إذا ما قورن بالتنشئة الاجتماعية والحالة الاقتصادية والحالة السياسية للبلد.
وأضاف: "لا يعرف كثيرون ممن يتحدثون عن المحظرة من الخارج، أنها لم تكن يوماً بيئة لاعتناق الأفكار المتطرفة، بل تكاد تكون أكثر تفلتاً من القيود الدينية من بقية المواقع في المجتمع".
وتابع: "إن أغلب الذين انضموا إلى المجموعات الموسومة بالتطرف ليسوا أبناء أصلاء للمحظرة الموريتانية. وحتى لو كانوا كذلك، لا يمكن اعتبارهم ظاهرة إذا ما قورنوا بفئات نهلت من نبعها قروناً في هذه البلاد. ولو كانت المحظرة مصدراً للأفكار المتطرفة، لكانت تنظيماتها ظهرت منذ قرون".
ولفت ولد لحبيب إلى أن "الجهل بما تدرسه المحظرة الموريتانية، هو ما يدفع إلى الأحكام المسبقة. المحظرة الموريتانية تدرس أساساً علوم اللغة العربية والفقه المالكي والمنطق الصوري وبعض أصول الفقه، وفي درجة متأخرة زمنياً، صارت تدرّس علوم الحديث وتفسير القرآن. في حين تعتمد المجموعات المتطرفة على بعض النصوص الحديثية والقرآنية التي لا تدرّس أساساً في المحظرة، وعلى بعض الأدبيات الفكرية المعاصرة التي لا تعرفها المحظرة إطلاقاً".
وختم ولد لحبيب: "طبيعة المحظرة تخلق نوعاً من العزلة عن الواقع الاجتماعي القريب، مما يقلل من روح التفاعلية لدى شبابها، ويمنع بعضهم من دخول التيار العام للمجتمع بشكل مؤثر، ومتماه مع الحالة الشبابية العامة. كما أن طبيعة مناهج المحظرة التلقينية تضعف بعض الملكات التحليلية والقدرات الحوارية، فيضعف نتيجة لهذا دورها في نشر الوعي الديني الصحيح، كما يسهل استمالة بعض طلابها إلى أيّ تيار فكري ديني، إذا توفرت فيه وسائل إقناع أخرى".