ارتفع منسوب شهرة الشاعر التونسي الشابي مع الثورة التونسية التي اندلعت في ديسمبر 2010. وانتقلت شرارتها سريعا الى البلدان العربية من المحيط الى الخليج في ما سمي اعلاميا بالربيع العربي حيث عمت الاحتجاجات الشعبية الشوارع والساحات وهتف الجميع بـ (الشعب يريد اسقاط النظام) كرد فعل قوي على الركود الاقتصادي وتفاقم الفساد على جميع الأصعدة..
وطفا اسم الشابي على الساحة الثقافية وساحة الثوار على حد سواء حيث رددت حناجر المحتجين في تونس ومصر والمغرب وبلدان أخرى قصيدته الشهيرة (اذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر /و لا بد لليل أن ينجلي / ولا بد للقيد أن ينكسر/ ومن لم يعانقه شوق الحياة/ تبخر في جوها واندثر)، لتسطع القضية في القصيدة العربية مؤقتا على الأقل. في الوقت الذي كتبت عن الشاعر عشرات المقالات المطولة في الصحف العربية. وتقاسم آخرون أشعاره في مواقع التواصل الاجتماعي وغدا الشابي في ظرف وجيز من أكثر شعراء العرب الموضوعة أسماؤهم في محرك غوغل.
شهرة الشابي وذيوع اسمه في هذه الفترة أماط اللثام عن جانب أساسي في شعره وهو الجانب الثوري الذي لم يحظ بالمساحة الكافية في بعض الاهتمامات النقدية التي قدمت شعره الى طلاب الثانويات والجامعات على أنه وجداني يمتح من الذات ويهيم في أجواء الطبيعة. ولا يحيد كثيرا عن المعالم الكبرى للرومانطيقية العربية خصوصا تجربة جبران خليل جبران. ومن المجحف نقديا أن نحصر المشروع الشعري للشابي في هذه الزاوية فقط . وان كانت هي القوية. فلابد من قراءة مكتملة ترصد التحول المتنامي الذي طال التعبير الشعري لدى أبى القاسم خلال سبع سنوات والتي أنتج فيها ديوانا شعريا اسمه «أغاني الحياة.« وذلك بعد حياة قصيرة وغير مستقرة ومؤلمة أحيانا حيث مات في سن الخامسة والعشرين عام 1934 بعد معاناة مريرة مع مرض في القلب فشل الأطباء في علاجه. وفشل الشاعر في مداراته بالقصائد والطموح..
حياة شاعر الخضراء, وهذا هو لقبه، بدأت عام 1909 بمدينة توزر التونسية حيث ولد في أب اشتغل قاضيا وتنقل بحكم الوظيفة في الكثير من مدن البلاد مما أفاد الطفل النحيل أبا القاسم في التعرف على جغرافيا متنوعة والوقوف على سحر الطبيعة بتناقضاتها الجميلة. وسجل ذلك في قصائد تفصح عن قوتها من خلال العناوين التالية: «أنشودة الرعد» «مناجاة عصفور»، «رثاء فجر»، «من أغاني الرعاة»، «الغاب.«.. وهي قصائد صور فيها الطبيعة بصدق متناه ومزج بين عناصاها وهزات الذات في المنعطفات الصعبة لدرجة تغدو، أحيانا، هذه الذات هي الموضوع وتكتفي عناصر الطبيعة بالحلقة المتواضعة من ذات القصيدة الكبرى. خصوصا حين تغيب أسماء أماكن ومواقع بذاتها مما أغرى الدارسين لشعره بالقول أن قصائده المرتبطة بهذا الاتجاه هي تمارين على حبل الخيال. ومهما يكن من أمر فهي تمارين صعبة نال بها الشابي العلامة الممتازة في العصر الحديث مقارنة مع معاصريه من الرومانسيين. وتبوأ ديوانه «أغاني الحياة» مكان الصدارة في لائحة المتن الشعري العربي الذي تناول هذا الموضوع وراكم فيه. خصوصا المتن القديم مع شعراء البدو. ومع ابن خفاجة وابن هانئ في الأندلس . وابن الرومي وابن المعتز في العصر العباسي ..
الالتصاق بالطبيعة والانتصار للذات أفضى بالشابي الحالم الى عوالم التأمل في الحياة الطبيعية بعناصرها الصارخة : المساء / الخريف /الغاب /العصفور… وفي الحياة الماورئية في قصائده: «الى الله»، «الدنيا الميتة»، «في ظل وادي الموت»، .. والتأمل في الذات نفسها حين يتعلق الأمر بالسفر عميقا في الهشاشات الداخلية وذلك في قصائد بعينها: «الكآبة المجهولة»، «السآمة»، «الى قلبي التائه»، «الأشواق التائهة»،… وأيضا في الحياة الاجتماعية والهموم الوطنية كما سنرى في فقرة لاحقة. والديوان برمته لا يمكن قراءته خارج السياق الثقافي والنفسي لحياة الشابي الذي حفظ القرآن في سن التاسعة. والتحق بجامع الزيتونة في تونس العاصمة وتخرج منها بعد أن نهل من علوم اللغة والفقه والشريعة. وانتسب لاحقا الى كلية الحقوق وتخرج منها. واستوعب التراث العربي القديم وانفتح على الأدب الحديث في المشرق. وتأثر بكتابات المهجريين. واطلع على روائع الأدب الاوروبي من خلال الترجمة.
محطات علمية وثقافية كبرى مر منها الشابي سريعا وكتب قصائده الأولى على قدر كبير من النضج دونما عناء. وحتى حين نتابع، من حين لآخر، الملفات الثقافية التي يتحدث فيها الشعراء والمبدعون عن طقوس الكتابة.. نقول أن الشابي لم يكن يستنزل الشعر استنزالا ولا جلس يوما يتوسل اليه بطقوس معينة (كان الشعر يفيض عليه ويهاجمه ويمنعه من الراحة والنوم… فيصوغ القصيدة بيتا بيتا في الليل… ثم ينام مطمئنا… حتى إذا استيقظ في الصباح وجدها على طرف لسانه وينسخها عن ذاكرته والعجيب أنه إذا نسي سطرا فلم يكن يرضي أبدا أن يعوضه وكان يفضل أن تظل القصيدة بتراء) ، يقول عنه صديقه زين العابدين السنوسي.
وبالاضافة الى تجربة المرض المريرة التي عاشها الشاعر. فقد اكتوى بألم الغياب والفقدان على نحو فاجع وأحس الموت في أقرب الناس اليه. وهذه هي مأساة الشابي الكبرى . حيث ماتت الفتاة التي خفق قلبه لها لأول مرة وتألم لموتها طويلا. يقول (مات من تهوى وهذا اللحد قد ضم الحبيب / فابك يا قلب بما فيك من الحزن المذيب). وحتى حين تجاوز مأساة حب الطفولة وكفكف دموعه المالحة وجلس يلتقط أنفاس الأمل عاد الموت يختطف هذه المرة، سنده ومعيله في الحياة وهو الأب . فتأثر كثيرا حتى استفحل الداء وساءت أحواله فصرخ الطير الجريح ( يا موت قد مزقت صدري / وقصمت بالارزاء ظهري / وفجعتني فيمن أحب / ومن اليه أبث سري /ورزأتني في عمدتي / ومشورتي في كل أمر)..
مصير الشابي الشخصي والأسري. وهواجسه الشعرية والثقافية الواردة في مذكراته خصوصا رسائله الى صديقه محمد الحليوي أمور لم تمنعه من الانتصار الجارف لهموم الشعب العميقة وهو أحد صناع الوجدان المرهفين حد التلف. كما انتصر لقضايا الوطن واستنهض عزائم التونسيين على طريقة شعراء الحماسة القدامى لمقاومة الاستعمار الفرنسي. وذلك في قصائد تحتل مساحة وافرة من الديوان وتوفر للدارسين الجدد فرصة تجاوز الاشتغال على نفس الأبيات التي تكررت في مقالات ودراسات عديدة كتبت عن الشابي قبل الثورة. خصوصا المحافظة منها والتي أصرت على حصر مشروعه الشعري في اطار الوطنية بمفهوم الولاء الأعمى للسلطة والاستكانة والتواطؤ على الفساد الاقتصادي والاجتماعي.
هذا التوصيف البارد لا يليق بالشابي الذي تمرد على طرائق التدريس العتيقة بجامع الازهر. وانتصر لحركة تجديد الشعر العربي الحديث التي انطلقت في الشام ومصر وازدهرت، فيما بعد، على نحو قوي في العراق. كما رفع التحدي في وجه المرض (سأعيش رغم الداء والأعداء / كالنسر فوق القمة الشماء). وتمرد على مؤسسة الزواج، بعد أن تزوج ارضاء لطلب والده، وهام ينشد الحب في البراري وكتب قصيدته الرائعة «صلوات في هيكل الحب» والتي وحدها تحتاج لدراسة مستفيضة للوقوف على ملامح التحرر التي وسمت حياة الشابي.
ولا يخرج عن هذا المنحنى، منحنى الرفض والتمرد، كتابه النقدي «الخيال الشعري عند العرب.« الذي هو في الأصل محاضرة ألقاها الشابي بفضاء الخلدونية عام 1929، تناول فيها مضامين الخيال في ذاكرة التراث الشعري عند العرب. وانتقد بشدة انتاج الشعر العربي في مختلف عصوره. وأقر أنه مادي ويفتقر الى الخيال ولا يستشرف المستقبل في شيء. مما أثار جدلا واسعا في تونس والمشرق وتحمل الشابي نقدا لاذعا ..والكتاب في مجمله مادة قيمة في المدونة النقدية باعتباره يتناول بجرأة أحد أهم الموضوعات التي استأثرت اهتمام العرب وفضول النقاد على مر العصور.
وتحرر الشابي من الصمت بخصوص قضايا الوطن فكتب قصيدته «تونس الجميلة» يقول ( لست أبكي لعسف ليل طويل / أو لربع غدا العفآء مراحه / أنما عبرتني لخطب ثقيل / قد عرانا ولم نجد من أزاحه) .. ثم توجه الى شعبه المدحور في قصيدة «سر النهوض» (لا ينهض الشعب الا حين يدفعه /عزم الحياة اذا ما استيقظت فيه /و الحب يخترق الغبراء مندفعا /الى السماء اذا هبت تناديه / والقيد يألفه الأموات ما لبثوا / أما الحياة فيبليها وتبليه) .. وعاد يلوم شعبه بقسوة في قصيدة «الى الشعب» (يا الهي ! أما تحس ؟أما تشدو؟ / أما تشتكي ؟ أما تتكلم / مل نهر الزمان أيامك الموتى/ وأنقاض عمرك المتهدم) .. و»الى حماة الدين» يقول (سكتتم حماة الدين سكتة واجم / ونمتم بملء الجفن والسيل داهم) ..بالاضافة، طبعا، الى قصيدة الشهيرة «ارادة الحياة» التي استخدمت أبياتا منها في النشيد الوطني التونسي..
لقد نوع أبو القاسم القوافي والبحور، لكن خاب أمله في شعبه المدحور ويئس من سكوت أهل العلم في فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية . فخرج محارب الصحراء يتكفل بالمهمة الصعبة بصدر مكشوف. وبقصائد أشبه بالبيانات العسكرية الآخيرة.. ففي قصيدة «الى طغاة العالم» يقول (ألا أيها الظالم المستبد / حبيب الظلام عدو الحياة / سخرت بأناة شعب ضعيف /و كفك مخضوبة من دماه /رويدك ألا يخدعنك الربيع /و صحو الفضاء وضوء الصباح/ ففي الأفق الرحب هول الظلام / وقصف الرعود وعصف الرياح). وفي قصيدة أخرى بعنوان متشابه «الى الطاغية» يقول (لك الويل يا صرح المظالم من غد / اذا نهض المستضعفون وصمموا /اذا حطم المستعبدون قيودهم / وصبوا السخط أيان تعلم).
من الصعب أن نجزم استمرار الأجيال الجديدة في تذوق القصيدة العربية في مختلف عصورها والانتصار نقديا لها. لكن قدرة الكبار على التموقع في قلب التاريخ والوجدان الشعبي ستستمر باستمرار البشرية. والشابي واحد من الكبار.
كاتب مغربي
حسن بولهويشات