عن الوطن والاحتلال ـ إنها حرب الإرادات

جمعة, 2014-07-11 15:48

 موعدنا في الوطن الأسير كل صيف. يعود الآلاف من المغتربين لقضاء إجازة الصيف مع الأهل والأصدقاء وزملاء الصبا. أعود إلى «أول منزل يألفه الفتى». حملت الحنين إلى ذاك المنزل وأبيت أن أهبه أو أوزعه على كثير من المنازل التي تقاسمت سنوات عمري في شرق الدنيا وغربها، واحتفظت بذاك الحنين كله لذلك المنزل الريفي البسيط الذي ينام بين أحضان أشجار التين والزيتون ودوالي العنب وشجرة التوت الأبيض الغنية بطرحها، وكانت الوالدة تصرعلى توزيعه على جميع الجيران وأولاد الحارة. وصلنا البلدة صباحا بعد إجراءات بسيطة جدا لم نتوقعها. رمضان يأخذ الوقت كله من الناس، وكأن أحدا لا يعمل أو لا يريد أن يعمل. الاحتقان بلغ مرحلة الانفجار وجو التوتر واضح في عيون الناس. تم الإعلان عن اكتشاف جثث المخطوفين الإسرائيليين الثلاثة في اليوم نفسه. كل من تحدثت معه يشكك في الرواية الإسرائيلية. أصرت أم أحمد على أن حادث سيارة على طريق إيلات قتل فيه ثلاثة شبان وقع قبل أسبوع من الإعلان عن اختفاء المستوطنين الثلاثة. وعندما طلبت منها توثيق الخبر ذهبت إلى صفحتها على الفيسبوك وقالت لي إقرأ. قرأت الخبر مطبوعا كأنه قصاصة من جريدة، لكن تعوزه المرجعية والتاريخ والمصدر. ظننت أن الأمر مجرد إشاعة عند شخص أو اثنين، وإذا بكل الفلسطينيين الذين تحدثت معهم يكررون قصة حادث السيارة على طريق إيلات. «رد الفعل الإسرائيلي سيزيد عن الحد هذه المرة» قال لي سائق السيارة التي نقلتنا إلى البلدة. «ما نخشاه حقيقة جرائم المستوطنين وهمجيتهم وغدرهم. فهم لا يخشون شيئا والجيش يحميهم ولم يعاقب أحدا على جريمة ارتكبها. الله يستر».

الوطن يسير وراء جنازة محمد أبو خضير

لم يطل الانتظار. أطلقت أيادي المستوطنين ليعيثوا فسادا وتدميرا. في الليلة الأولى سمع صوت انفجار في الجزء الشمالي من البلدة. هاتف وصل الصديق الذي جاء يسلم عليّ فقطع الزيارة فجأة وقال، المستوطنون قريبون من البيت. تبين في ما بعد أنهم ضربوا قنبلة صوت للرعب فقط وليقولوا نحن قادمون. استنفر شباب البلدة طوال الليل. سدوا المداخل تحسبا لهجمات المستوطنين الذين يحيطون بالبلدة من كل الجوانب. بدأ الشباب في كل القرى القريبة من المستوطنات تنظيم دوريات حراسة على مداخل قراهم كي لا يتسلل منها المستوطنون. في ساعات الصباح الأولى بدأت أخبار الشاب الصغير محمد أبو خضير تملأ الدنيا، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي. كنت أتابعها مع ساعات الفجر الأولى بشغف طاغ لدرجة أن زوجتي بدأت تتهمني بأنني أصبحت مدمنا «على كبر». هز الخبر كياني خاصة أمام صورته الصغيرة التي ترشح براءة وطهرا. قررت أن أشارك في الجنازة بأي ثمن. قال لي قريبي عبد الله صيام نائب محافظ القدس: «الطرق مقطعة ومغلقة والوصول إلى شعفاط مستحيل. ننـتظر قليلا ونذهب لواجب العزاء بعد الظهر». كانت الجنازة مهيبة بكل المقاييس. تسلل أبناء القرى المجاورة وجميع أهالي البلدة وحملة هوية القدسفي الجنازة. شعفاط لا تبعد عن بلدتي إلا نحو عشرة كيلومترات لولا الطرق الالتفافية. وصلنا سرادق العزاء بعد الخامسة مساء. مررنا على أكثر من حاجز. حاولت سحب الكلمات من فم والده حسين بصعوبة، فأكمل القصة عم الشاب الصغير الذي «لم يمتع بالشباب» وأقاربه وشيخ المسجد ورئيس المجلس البلدي. شعرت براحة غير معهودة عندما بكيت والشيخ يصف لي منظر الجثة المتفحمة. وصل الأمر بهؤلاء القتلة أن يحرقوا الطفل حيا ويصبوا الكيروسين في حلقه للمزيد من التعذيب. إنها رسالة لهذا العالم المنافق الدجال الذي تبنى التعريف الإسرائيلي للإرهاب، وأصبحت كلمة إرهاب تعني تمرد الضحية على شروط قتلها أو محاولتها لإطلاق زفرة غضب تجلجل الأرض، معلنة عدم قبولها بخيارات الموت المتعددة التي قدمها العدو لها. وراء جنازة محمد سار الشعب موحدا ووراء الجنازة سارت الأمة العربية كلها. إنه محمد الدرة رقم 2 أو محمد بوعزيزي أو خالد سعيد أو حمزة الخطيب – لا فرق. فالطغيان والاحتلال وجهان لعملة واحدة جوهرها قمع الجماهير وإطالة أمد الظلم والقهر والهوان.

هل هي انتفاضة ثالثة؟

تحركت البلاد على إثر الجريمة. مواجهات في كل مكان . الشهداء يسقطون. المستوطنون هائجون ويبحثون عن ضحايا. القصف العشوائي مستمر فوق قطاع غزة. وسائل الإعلام تسابقت لمقابلة أهل الطفل الفلسطيني/الأمريكي طارق أبو خضير الذي تعاقب ثلاثة جنود على ضربه وركله وتهشيم وجهه. أخبار محاولة خطف الطفل موسى زلوم ابن الثماني سنوات عن طريق شرجة الحبل في كل مكان. شباب شعفاط دمروا خط القطار الخفيف الذي يخترق بلدهم. شائعات حول مزيد من الأطفال المخطوفين في كل مكان. مواجهات في بلدة الرام القريبة منا. «نعم إنها بوادر انتفاضة ولكنها ليست انتفاضة»، قلت لشباب البلدة الذين تجمعوا في مقهى البلدة مساء بعد صلاة التراويح لمشاهدة مباريات كأس العالم. الانتفاضة لها شروط أخرى. ما دامت هذه القيادة تعلن نهارا جهارا أنها ضد انتفاضة ثالثة، وما دامت تتابع التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، وما دامت الفصائل التقليدية عاجزة عن تحريك الشارع وما دامت قياداتها بعيدة عن نبض الشارع الفلسطيني وليس لها علاقة بهموم الجماهير وتأطيرها وتعبئتها، فالوقت لم يحن لانتفاضة ثالثة. الانتفاضة الثالثة بحاجة إلى قيادات ميدانية ثورية شريفة تنظم الجماهير وتؤطرها وتعدها للمواجهات والانضباط لقرارات القيادة العليا كما حصل في الانتفاضة الأولى قبل أن تحرفها القيادة عن مسارها لاستثمارها في ما عرف بعد ذلك باتفاقية أوسلو، التي حلت مشكلة القيادة المعزولة في تونس، ولم تحل مشكلة الشعب الفلسطيني. الانتفاضة الثالثة تحتاج أيضا إلى حاضنة عربية تحمي من الخلف وتساعد وتمول وتسير مئات الألوف في الشوارع العربية تضامنا مع الانتفاضة. وهذه أيضا غير متوفرة بعد موجة الردة على الثورات العربية. قارنوا مثلا بين رد فعل مصر عام 2012 على عملية عامود السحاب والوفود الشعبية التي وصلت غزة للتضامن، وبين رد الفعل الحالي الذي لم يتجاوز بيان وزارة الخارجية الذي يطالب بضبط النفس وعدم التصعيد، وكأن الطرفين المشتبكين متساويان، وكأن البيان الصادر عن مصر صادر عن بلد في جنوب البحر الهادي، بل إن زيارة رئيس الاستخبارات المصرية لإسرائيل قبل يوم أو يومين من عمليات قصف غزة جاءت لأخذ الضوء الأخضر من القيادة المصرية الجديدة، كما فعلت تسيفي ليفنى مع أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري آنذاك، قبل يوم من ضرب غزة في أواخر كانون الأول/ديسمبر 2008.
كان الله بعون غزة وهي تقدم ضريبة الدم عن هذا الوطن العربي المستسلم الخانع لشروط أعدائه. عملية «الجرف الصامد» امتحان إرادة الصمود في غزة، ولفسخ حكومة الوحدة الوطنية، ولاختبار إرادة المقاومة والصمود، ولاختبار القيادة المصرية ولمعرفة أنواع الصواريخ المحلية التي طورتها المقاومة بإمكاناتها الذاتية، وقبل ذلك وبعده، إنها حرب الإرادات. فهل تستطيع إسرائيل بمعونات ذوي القربى أن تفرض إرادتها على المقاومة الفلسطينية في غزة؟ هذا ما ستبديه لنا الأيام القليلة القادمة.

الذكرى العاشرة لإصدار الرأي الاستشاري
لمحكمة العدل الدولية حول الجدار

دعيت لحضور مؤتمر خاص في مدينة البيرة في الذكرى العاشرة لصدور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بتاريخ 9 تموز/يوليو 2004 الذي أقر بعدم شرعية إقامة جدار الفصل العنصري وضرورة تفكيكه والتعويض على المتضررين. والهدف من المؤتمر بحث سبل تفعيل ذلك الرأي القانوني المهم، الذي حسبما أجمع الحضور عليه أنه لم يستثمر جيدا. تناوب على المنصة العديد من المتحدثين من بينهم كبير المفاوضين صائب عريقات، الذي بشّر الحاضرين بأن القيادة على وشك اعتماد استراتيجية جديدة، ثم تحدث السيد تيسير خالد رئيس اللجنة الوطنية عن أضرار الجدار والذي تحدث عن الجهود التي بذلتها اللجنة في توثيق الأضرار الناجمة عن إقامة الجدار. وقال بعد صدور ذلك الرأي القانوني، قدم الشعب الفلسطيني 4744 شهيدا و24243 جريحا، وقام الجيش الإسرائيلي بـ 76000 مداهمة واعتقل 46268 فلسطينيا، ودمر 3250 بيتا وارتفع عدد المستوطنين من 424000 عام 2004 إلى 540000 عام 2014. كما تحدث في المؤتمر ممثل عن الأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي. وعقدت جلسة عمل بعد ذلك للتوصل إلى توصيات لتفعيل القرار والاستفادة منه، على أساس أن الرأي الاستشاري هذا تحول إلى قرار في الجمعية العامة حظي بأغلبية كبيرة وصلت إلى 150 دولة. وكرر بعض المتدخلين أن الأسلوب الأمثل هو جرجرة إسرائيل إلى المحكمة الجنائية، بصفة فلسطين الآن دولة معترفا بها، وتتمتع بعضوية مراقب في الأمم المتحدة. 
أثناء النقاش قدمتُ ثلاث ملاحظات: الملاحظة الأولى – هذه ليست المرة الأولى التي يتم إهمال توصية مهمة أو تقرير دولي أو قرار تاريخي ليذهب أدراج الرياح. فقد تم التراجع عن تشكيل لجنة تقصي حقائق حول أحداث مخيم جنين عام 2002، وتقرير الأب ديزموند توتو عن أحداث بيت حانون 2006 وتقرير غولدستون حول عملية الرصاص المصبوب في غزة 2008/2009. 
الملاحظة الثانية- أن جرجرة إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية ليس أمرا سهلا ويجب أن يسبق ذلك انضمام فلسطين كدولة إلى نظام روما الأساسي للمحكمة لعام 1998 الذي دخل حيز الإلزام عام 2002. ويمكن للقيادة أن تعاود المحاولة للانضمام مستندة إلى قرار الجمعية العامة بمنح فلسطين وضعية الدولة المراقب بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2012. وبما أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة فمن الصعب استصدار قرار من مجلس الأمن بسبب الفيتو الأمريكي. وقد حمى الفيتو الروسي مؤخرا تقديم مجرمي الحرب في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية.
الملاحظة الثالثة – إن تكرار دولة فلسطين واستعمالها في الأدبيات لا يعني أن الدولة قامت فعلا وعلى أرض الواقع. فكي تقام الدولة يجب أن يتم الاعتراف الدولي بها بأغلبية الثلثين في الجمعية العامة، بناء على توصية من مجلس الأمن. أما إذا اعتبرنا فلسطين دولة تحت الاحتلال فعلى القيادة أن تعلن ذلك وتحمل المحتل المسؤولية الكاملة لتبعات الاحتلال. الوضع الذي نحن فيه لا هذه ولا ذاك، ففلسطين ليست دولة عادية تمارس سيادة على الأرض والشعب ومعترفا بها دوليا وتستطيع أن تدخل في اتفاقيات دولية كما تشاء، ولا هي تقر بأنها دولة محتلة بما يعني ذلك من مسؤوليات معقدة تتحملها سلطة الاحتلال. 
وختمت مداخلتي مؤكدا أن الدولة المستقلة ذات السيادة الفعلية لن تقوم إلا بالنضال بكافة أشكاله، خاصة المقاومة السلمية المتواصلة والمستمرة والمستدامة بلا كلل ولا هوادة إلى أن يتم كنس الاحتلال مرة وإلى الأبد. وللحديث بقية.

٭ أستاذ جامعي وكاتب عربي مقيم في نيويورك

د. عبد الحميد صيام