تطرقنا في الحلقة السابقة من هذا الموضوع إلي الكشف عن أسباب ظاهرة التطرف ، مبرزين إلي حدما مدي أهمية عامل النفسي في نشأة الظاهرة ،وكيف أنه تم إهماله وتجاهله من أغلب الدراسات التي تناولت الموضوع ،ولاشك أن ذلك سينعكس سلبا علي تصور الحلول المناسبة لمواجهة الظاهرة ،بحيث ستبدوا وكأن شئيا ينقصها ، وسنحاول الآن أن نقدم قراءة نعتبرها مكملة آخذين بعين الاعتبار أهمية العامل النفسي علي محمل الجد ،وهو الأمر الذي ينقص في تصوري المقاربات التي تقدم الكتاب والباحثون في الموضوع ، وأقول (مكملة) لأن سبل مواجهة التطرف ، لابد أن تبدأ أولا وتنطلق من الواقع ، وذلك يعني بالطبع الإهتمام بالأبعاد الإقتصادية والإجتماعية والسياسية ، لأن هذه الظاهرة في حالة التجسد الفعلي تتداخل فيها كل تلك الأبعاد ، وهو الأمر الذي دفع بالباحثين إلي قصر أسباب الظاهرة علي تلك الأبعاد أي حين ينظرون إلي التطرف كفعل جماعي منظم ، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في ما قبل مرحلة التنظيم ،والتخطيط الإقتصادي والسياسي ، والحربي . لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو كيف نواجه ظاهرة التطرف ونسعي إلي القضاء عليها من خلال الأخذ بعين الاعتبار لأهمية العامل النفسي في التحضير لتلك المواجهة ؟.
أولا : مراعات العامل النفسي لتحسين وتكملة الخطاب الحالي لمناهضة التطرف
إن اهتمامنا الآن في هذا المقال ، وإن كان سيقتصر علي أهمية العامل النفسي فإنه لن يعتبره حجر الزاوية في مواجهة التطرف كما هو الأمر بالنسبة لحالة تشخيص الأسباب ، لكننا مع ذلك سوف نقتصر عليه دون الخوض في مضمون أبحاث متميزة أخري تناولت الموضوع ،كأمر واقع ،والتي نعتبر أن ما ينقصها هو إهمال العامل النفسي ،الذي سنقدم عنه ـ كما أسلفنا ـ تصورا ينضاف إلي ما تقدمت به تلك الأبحاث ليكون مكملا لها .
إن المواجهة السلمية لظاهرة التطرف كانت تقتصر عند الباحثين علي الشجب والتنديد بالتطرف، وإبداء مساوئه ، وسلبياته، ومحاولة إقناع الشباب بذلك فقط ، دون اللجوء إلي المؤثرات النفسية التي تدفع إلي التطرف ومعالجته بتربية النفس وتهذيبها وتنقيتها من شوائب الواقع المادية ، وإكراهاته الحضارية .
لهذا فإن مواجهة هذا التطرف الرهيب ،وبعد أن تطرقنا في المقال الماضي إلي أسبابه، يقتضي منا أن نتجه ـ في ذات الوقت الذي نواجهه فيه كأمر واقع ـ إلي مواجهته كتصور،أوكفكر،أو كمنهج ،أو كأسلوب ،لتجفيف منابعه،وقطع إمداداته البشرية،بكشف سلبياته ومآلاته،وتناقضه مع مقتضيات الدين الإسلامي ،لكن هذا الأمر لن يؤتي أكله ،بمنء عن حال الفرد نفسه وإلقاء الضوء علي الواقع الذي يعيش فيه لاستجلاء المؤثرات التي تفعل فعلها فيه ،فتصرفه إلي التطرف فيختاره كمنهج ...معني ذلك أن هناك ثلاثي هو:( الظاهرة وسلبياتها ـ الواقع وتجلياته ـ تلمس أثر الواقع بصفة شاملة علي الحياة الدينية للأفراد ) لابد أن نربط بين عناصره تلك ،وأن نجد ذلك المسوغ الذي يجمع أطراف ذلك الثلاثي .
إنه التأثير النفسي للواقع المزري الذي تعيشه الأمة الإسلامية ،علي من يعانون من بعض الإختلالات النفسية علي نحو ما ذكرنا في الحلقة الماضية،فينبغي أن يأخذ ذلك التأثيير نصيبا كبيرا من التشخيص والتحليل ويكون هو أساس المواجهة السلمية لظاهرة التطرف ،ويجوز لذلك أن نشدد من هول ذلك الواقع ، وأن نبدي امتعاضنا الشديد منه،ليجد أولائك(المتطرفون) مَن يحسون معهم نفس الإحساس، لكنه لم يدفعهم إلي التطرف ،لنخلص بعد ذلك إلي أن التطرف ليس خير وسيلة للخروج من ذلك الواقع ، وأن الإسلام لا يفرض أن نجد حلا سريعا ولو كان مجحفا لمثل هذه الأحوال ، ولا أن نختيار الانتقال إلي الدار الآخرة بدلا عن العيش في هذا الواقع المرير، فكل يوم يعيشه المسلم هو خير له رغم الأحوال العامة للأمة ،لأنه سيسجد فيه لله ،في الصلوات الخمس.. ،ويسبحه فيه،ويحمده ،ويشكره كثيرا ... وكل ذلك يعتبر زيادة في الخير وفي الحسنات ،تمهيدا لنيل الثواب الجزيل في الآخرة.
ثانيا : مراعات العامل النفسي عند مقاربة ميول الأفراد (التصوف أمان من التطرف ) نموذجا
لا نريد أن نطيل هنا بتقديم تعريف دقيق لمفهومي التطرف والتصوف ، لأن مقام لايسمح بذلك ، لكننا سنقتصر فقط في البداية علي اختزال التجربة الصوفية في كل أبعادها وفقا لما يخدم موضوعنا المتعلق بإمكانية معالجة نفس الميال إلي التطرف بصرفه إلي التصوف لقطع الطريق أمام المتطرفين فينقطع مددهم البشري ، ويأتي يوما تفتقر الحركات الإرهابية المتطرفة إلي من يحمل فكرها وينخرط فيها، فتعدم القدرة البقاء .
إن مفهومي "وحدة الوجود" و"وحدة الشهود " تختزلان التجربة الصوفية رغم ثرائها وتنوعها ، فإذا قال الصوفي مثلا : "لا أرى شيئاً غير الله"، فهو في حال وحدة شهود. وإذا قال: "لا أرى شيئاً إلا وأرى الله فيه"، فهو في حال وحدة وجود.. فحال وحدة الشهود هي حال الفناء، وحال وحدة الوجود هي حال البقاء. والفناء والبقاء متلازمان، لاينفك أحدهما عن الآخر؛ وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإذا كنت فانياً عن شيء، فأنت لابد باقٍ بغيره؛ أو إذا كنت باقياً في شيء فأنت،لا محالة، فانٍ عن سواه. وهذا أمر طبيعي، لأن الإنسان عاجز عن جمع همَّته،أو تسليط انتباهه، على أكثر من موضوع واحد في نفس اللحظة. فالورقة التي تكتب عليها، إن فكرت فيها (طولها، عرضها، لونها، إلخ)، تعذَّر عليَّك أن تكتب عليها؛ وإن فكرت في الكتابة أو فيما تكتب، تعذَّر عليَّك التفكير في الورقة. في الحالة الأولى، يقال في المصطلح الصوفي،: أنت باقٍ بالورقة، فانٍ عن الكتابة؛ وفي الحالة الثانية، يقال: أنت فانٍ عن الورقة، باقٍ بالكتابة.
إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة فتنسيك كل شيء،وتغيبك عن كل شيء، سوى الواحد الذي "ليس كمثله شيء"،وليس معه شيء. أو تقول:هو شهود حق بلا خلق،كما أن البقاء هو شهود خلق بحق... فمن عرف الحق شهده في كل شيء، ولم يرَ معه شيئاً،لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح،ومن شهود عالم المُلك إلى شهود فضاء الملكوت. ومن فني به وانجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كل شيء ولم يثبت مع الله شيئاً."
إن الأنفس التي تنصرف إلي التشديد في كل أمور الدين ،لاسبيل إلي إقناعها عن عدم اللجوء إلي التصرفات الإرهابية إلا بصرفها إلي مزيد من حب الله تعالي ـ كما يتصورون أنهم فاعلون ـ وتوجيهها إلي طريق آمن يضمن ذلك ،وهو سلوك سبيل المتصوفين ،ومن هنا تتأكد أهمية تربية النفس وتهذيبها وفقا لما يحقق الغاية الكلية والمقصد الأسمي من وجود هذا الكون كله ،وهوعبادة الله سبحانه تعالي ـ قال تعالي :"وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعموني "ـ والإنشغال به تعالي عن ماسواه ، وليس بالأمر الصعب ،أن ينسلخ من كان متطرفا من فضاءه الصاخب المليء بالخوف ،إلي فضاء التصوف الغارق في الهدوء والرجاء ،وليس أحسن من التصوف سبيلا لمن كان يريد أن ينسلخ في أعمال المتطرفين حين يعلم ذلك قبل الإنخراط فيه، ومن هنا يمكن القول بأن التصوف أمان من التطرف ،ذلك أن المتطرف والمتصوف يشتركان في السعي إلي هدف واحد وغاية أسمي هي الانشغال بالله تعالي وبما يحب الله تعالي، ويقتربان من بعضهما في نمط التفكير، لكنهما يختلفان في الطريقة والأداء.
1 ـ يتفق المتطرف الديني والمتصوف في الإنشغال بالله والسعي إلي بلوغ مرضاته
إن ما يقوم به المتطرفون من أعمال إرهابية شنيعة .... يتصورون أنهم يسعون من خلالها إلي مرضاة الله سبحانه تعالي،وأنهم لايريدون بها إلا وجه الله،وإن ما يقوم به المتصوفون من الزهد في الدنيا ،والبعد عن أحوالها ،وانشغالاتها ،إنما يريدون وجه الله ،وأن يتمكنون من معرفة الله حق معرفته بشهود حضرته العلية .
2 ـ يقتربان من بعضهما في نمط التفكير:
المتطرف يحاول أن يفني العالم ...في مسعي واهم يعتقد فيه أنه يرضي الخالق سبحانه تعالي ،والمتصوف يفني العالم ...في مسعي منه إلي إثبات الألوهية لله الواحد القهار ، لكن الفناء عند المتصوف هو فناء ناعم ، يبقي معه العالم بالله ، والفناء عند المتطرف هو فناء قاس وشديد يسعي فيه المتطرف إلي الإبقاء علي عالم... به هو نفسه.و الرأي عندي أن نبين كيف ذلك؟ ومامعناه؟ في الندوات وفي المنتديات ، وفي كل الأعمال الفكرية المتعلقة بالتطرف ، وأن نثبت فيها أنه خير للمتطرف ،أن يسعي إلي إرضاء الله تعالي من خلال تأكيد فردانيته وأن لاشيء في الكون غيره (وحدة الشهود) أو علي الأقل ألا شيء في الكون إلا به (حدة الوجود)، ولذلك فعليه أن يفني نفسه والعالم من حوله في ذات الله العلية ، وحينها لن يشعر بإهانة، ولا غبن، ولاظلم ، إذ أن من يثبت وجودا بغير الله فقد أشرك، ومن أدرك الحق في ذاته والخلق من حوله ، يكون قد وصل درجات عليا في إرضاء الحق (الله) تعالي ، ومعني ذلك أن الطريق إلي الله وتحقيق مرضاته سبحانه ، ليست مقصورة علي ما يقوم به المتطرف من قتل وتخريب وتدمير وتخويف الأنفس الآمنة المطمئنة ، بل هناك طرق أخري أقوم ، وأكثر نجاعة ، وأقل ضررا،وأضمن لبلوغ الهدف المنشود .
3 ـ يختلفان في طريقة الأداء:
فالمتطرف أختار طريق جهاد السيف رغم ما يعتريه من أحوال النفس ...وما يتعلق به من ضوابط ، فكان تطرفه في تجاوز كل تلك الضوابط ،التي ما وضعت إلا لأمر شرعي أعمي التطرف بصيرته عنه ،أما المتصوف فقد اختار جهاد النفس ،والبعد بها عن ما لا يرضي الله سبحانه تعالي ، حتي اتقي أصحابه أغلب المباحات ، والمتصوف هنا يمكن أن نقول عنه إنه متطرف لكن تطرفه لما أخذ طريق جهاد النفس كان تطرفه هذا مقبولا مستحسنا ،في الحالات العادية ،وعند ما تبتلي الأمة بالتطرف الذي يسلك طريق جهاد السيف ، يصبح التصوف (تطرف المتصوف) أمرا مطلوبا وواجبا ،لتحصين الشباب من التطرف الإرهابي .
فكون المتطرف والمتصوف يقتربان من جهة ويتفقان من جهة أخري ، فمعني ذلك أنه ليس من الصعب أن تكون الدعوة إلي التصوف واستحسان الميل إليه لدي الشباب ، هي السبيل الأنجع لحمايته وتحصينه من التطرف ، حيث يجد الميول إلي التطرف ما يشفي عليل نفسه في مشاغل وهموم المتصوفين ، فينشغل بالتصوف ويترك التطرف ،وما يملي الشيطان فيه من البعد عن الله وعن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم.
وفي الأخير ينبغي أن تتبني الدول التي تحارب الإرهاب والتطرف الديني بالإضافة إلي ما تقدمت به أبحاث علمية أكاديمية سابقة، سياسة المحاربة النفسية الإستباقية للظاهرة ، حتي تقطع الإمدادات البشرية ، لتلك الحركات المتطرفة ، وذلك من خلال حضور كبير لدور لعالم النفس في مختلف الأنشطة التي تستهدف التحذير من التطرف ، وبخطابات تراعي التأثييرات النفسية للأوضاع: الوطنية ،والإقليمية ،والدولية : السياسية ،والإقتصادية ،والإجتماعية ،والدينية علي الأفراد، علي نحو ماذكرنا آنفا.
سيد الأمين ولد باب