ـ1ـ
صباح الأحد 11 أكتوبر الماضي. مدينة اسطنبول غداة تفجير أنقرة. تركتُ الأخيرة عصرَ السبت ساعات قليلة بعد الحادثة. اسطنبول تبدو وقد استيقظتْ بحيوية كعادتها. رغم كلّ شيء تظلُّ الحياة فيها مستمرة وكان الأمور طبيعية. لم تتخلّ بعد عن ولعها بالحياة. السبت كنتُ قادما رفقة أفراد من عائلتي من هايمانا (70 كلم) جنوب غرب أنقرة. عبر بنا السائقُ التركي العاصمةَ في اتجاه مطار أسينبوغا. لا حظتُ عرضا أنّه فتح الإذاعة فجأة للاستماع لما يبدو أنه منبر إذاعي مفتوح. مداخلاتٌ متعددة تتخلّلُها باستمرار عبارات : داعش وبي كي كي. شيء ما جعلني أنتبه بعد لحظات إلى أن هاتفي يُظهر عددا كبيرا من محاولات الاتصال. قبل أن أتعرّف على قائمة المتصلين رنَّ الهاتف. الدكتور عبد الحي يريد أن يطمئن علينا فقد شاهد للتو في وسائل الإعلام حادثَ التفجير الذي وقع غير بعيد عنا. لم نسمع ولم نلاحظ أي شيء غير معتاد. طرحتُ السؤال على السائق. يَظهَرُ أنه لم يجد من المناسب إبلاغنا بخبرٍ مزعج. في مطار أنقرة اسينبوغا ثم في مطار اسطنبول أتاتورك بدت الأمور عاديةً. حين وصلْنا إلى الأخير أخبرتْني زميلة كانت في استقبالنا أن عِدّة رحلات تم إلغاؤها لحظات قليلة بعد إقلاعنا من أنقرة. بدأتُ أُدرك حجم الحدث وبشاعته: عددٌ هائل من القتلى والجرحى…. ساعات قليلة قبل ذلك كانت قد وصلتني رسالة باريسية تحمل قصيدة إميل فيرهايرن : صاحب التعب. تحدّي الاحتفاظ بالأمل أو بعبارة أدقّ تحدي اختراع الأمل يبدو أكثر فأكثر عسيراً على الرفع.
ـ2ـ
لم تكن الظروف الطبيعة دائماً رحيمةً بالإنسان. ولكن هذا الأخير كثيرا ما أظهر وما زال يُظهر تجاه نفسه رحمةً أقلّ. لقد انتهك دائما بإصرارٍ وشراسة حرمة الحياة، حرمة حياته. لا يبدو الإنسان وكأنه ملّ من نزواته الكؤود، نزواتِه المفرطة في ولعها بإراقة الدماء. طبعاً فإن الهذيانات الفاشستية ذات الطابع الطائفي أو العنصري تتطابق هنا، ذرائعيًا، مع هذا الجشع غير القابل للإشباع، تتطابق هنا مع هذا الجشع المأتمي أو المقابري. رافقني ذلك الصباحَ الانطباعُ الحزينُ والساذجُ أنَّ التطورَ الكبير للوسائل التقنية الموظَّفة لغايات تدميرية و، في الخلاصة، جزءًا كبير مما تسميه الإنسانية بالتنمية لا يساعدان في اللحظة الحاضرة إلاّ على تأجيج النزوات الدموية، تأجيج هذا العطش البدائي للقتل من أجل القتل، لإلغاء الآخر من أجل إلغاء الآخر.
ـ3ـ
أمضيتُ سهرة ما بعد الحادث في متابعة مختلف النقاشات على قنوات تركية ودولية وفي قراءة التحاليل. عسيرٌ أن نعرف من يفعل ماذا ومن يأمر بماذا في هذا السياق بالغ التركيب والمطوي على نفسه. “هذه المجموعات الطائفية الهائجة ليس لها صديق”. يلزم الاعتراف بأنّ تركيا أمام كل ما يحدث حولها خصوصاً لدى جيرانها العرب تبدو مفارقياً في وضعٍ غير سيئ. على الأقل نسبياً. ولكن تورّطها في الصراعات الإقليمية وبشكلٍ خاص في سوريا يقلقُ كثيراً من المحللين الأتراك. وبعضهم كما هو معروف يوجّه تُهماً مباشرة لحكومته. الرأي العام، إن جاز استعمالُ هذه العبارة يعطي الانطباع هنا أيضاً بأنه مُستقطَبٌ تجاه الدور الذي يُنسَب للسلطات التركية في الصراع السوري. ومن المرجَّح أنه توجد بهذا الخصوص مستويات متقاربة من الانتقادات النارية و، تزامنياً، من عبارات الثناء الحماسية.
ـ4ـ
هذا الإجماع الذي نَجده هنا حول كون المجموعات المسلحة المتورطة فيما يحدث في شمال سورية وشمال العراق هي عبارة عن ” فرانكشتاينات ” تمّ صنعها غالباً، بشكلٍ متعمّد أو غير متعمّد، من قبل سياسة القوى الإقليمية والدولية، هل يصدر كلياً وحصرياً عن نظرية تآمرية مبتذلة؟ يبدو على الأقلّ أن هذه المجموعات قد تبنَّت العنفَ (نفسَه؟) الذي استثمرتْه، ربما بشكلٍ أقلّ علنية، الأنظمةُ الستالينية أو شبه الستالينية التي وصلتْ إلى الحكم واستمرتْ فيه لعقود في عددٍ من الدول العربية منذ أواخر الستينات. فالرغبة السادية المفرطة في تعميم الرعب عبر صيغ ممسْرَحة موغلة في الهمجية كانت بالماضي قد أصبحت سياسة رسمية أو شبه رسمية لهذه الأنظمة. هل يعني ذلك أن المجموعات المسلحة الجديدة قد ورثتْ بشكل أو بآخر هذا النهج و”خوصصتْه” وأوصلته إلى مستوياته القصوى؟ قد لا يكون ذلك مختلفاً كثيراً عمّا حدث ويحدث.
د. محمد بدي ابنو
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل
[email protected]