نظم مركز تواصل الثقافات بالرباط يوم السبت (9 صفر 1437ه/ 21 نوفمبر 2015م) ندوة، تحت العنوان المشار إليه، تهدف إلى تسليط الضوء على واقع اللغة العربية في الوقت الراهن واستشراف مستقبلها، عربيًّا ودوليًّا.
قُدمت في الندوة ستة عروض قيمة، كانت فاتحة لنقاش مستفيض أسهم فيه الحضور بالعديد من الآراء المفيدة حول ما طرحه المحاضرون من أفكار.
ولَمّا كنتُ من ضمن المدعوين للمشاركة في فعاليات الندوة من خلال الإسهام في النقاش وإثرائه، فقد ارتايتُ-في إطار التعريف بالأنشطة المتعلقة بخدمة اللغة العربية-أن أُطلِع القراء الكرام على أهم الموضوعات والنقاط التي تطرق إليها المشاركون والخُلاصات التي انتهوا إليها. وذلك على النحو الآتي:
جاء في كلمة الافتتاح والترحيب بالمشاركين التي ألقاها الدكتور/ عبد الحي مودن، مؤسِّس مركز تواصل الثقافات ومديره العلميّ (الأكاديميّ)، أنّ الندوة تأتي في إطار الاحتفاء بيوم اللغة العربية، وبمرور عشرين (20) سنة على تأسيس المركز (أُسِّس سنة: 1995م).
وفي عَرض، بعنوان: اللغة العربية الواقع والمأمول، تحدث الدكتور/ عبد الناصر الناجي، عضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلميّ (بالمغرب)، عن الحقوق الثقافية (وذكر منها: حق التعلُّم باللغة الأمّ)، وعن العلاقة بين اللغة والشعور بالانتماء إلى هُوية معيَّنة. وقال إنّ بعض الدراسات تشير إلى أنّ نحو (2500) لغة في العالم تُعَدّ في طور الانقراض، وذلك بسبب ما يعرَف بالافتراس اللغويّ ((glottophagie، أي أنّ لغة معيَّنَة تفترس لغة أخرى وتحلّ محلّها. وأشار إلى أنّ الدول الكبرى لا تعتمد إلّا لغة رسمية واحدة، وأنّ أغلب الدول التي تعتمد أكثر من لغة رسمية هي دول كانت مستعمَرة، وأضاف قائلًا إنه لا يمكن للغة أن تنمو وتتطوّر إلّا إذا كانت لغة التدريس، مشيرًا إلى أنّ ال (20) دولة المتقدمة في العالم (في الطب بصفة خاصة) تُدرِّس بلغاتها الوطنية. وقال إنّ اللغة العربية تحتلّ في الوقت الراهن الرتبة الخامسة بين اللغات الأكثر تداولًا والأكثر تأثيرا، على المستوى العالميّ، وفي الشابكة (الإنترنت) تأتي في المرتبة الرابعة.
وأنهى المحاضِر عرضه بتوصية بأن تُدرَّس العلوم في الجامعات باللغة العربية، مع الاستمرار في التدريس بها في مراحل ما قبل الجامعة. ولعلّ في هذا إشارة إلى ضرورة التراجع عن قرار السيد وزير التربية المغربيّ القاضي بالشروع في تدريس بعض المواد باللغة الفرنسية في بعض الثانويات التقنية، لتحلّ بذلك محلّ اللغة العربية.
وفي عَرض، بعنوان: مستقبَل اللغة العربية ومسألة الهُويات، قال الأستاذ/ رشيد لحلو، عضو الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية، وسفير المملكة المغربية سابقًا بالأمم المتحدة، إنّ اللغة العربية ليست لغة قريْش فحسب (أي أنها ليست للعرب فحسْب وإنما هي لغة للمسلمين وللعالم أجمع)، وأضاف أنّ الأمازيغ في المغرب هم مَن رسَّخ اللغة العربية. وقال إنّ الحضارة واللغة الفصيحة صنوان (أخوان) وهما مكوِّنا الشخصية، مُشيرًا إلى أنّ التقسيم الجغرافيّ يربط الدولة بلغتها، مضيفًا أنّ حركة التحرير في المغرب قامت بترسيخ اللغة العربية، لكن الاستقلال أتى معه بالفرنسية من خلال استجلاب المتفرنسين وتمكينهم من مقاليد الإدارة والاقتصاد في البلد، مشيرًا إلى أنّ اللغة الفرنسية لغة محترمة لكن الإنجليزية تقدمت عليها في الوقت الراهن، واللغة العربية سائرة في التقدم وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، مذكِّرًا بضرورة وضع حدٍّ لحالة التسيُّب التي تعيشها اللغة العربية. وقال إنّ المصطلَح الأجنبيّ لكثرة تَكراره أصبح النطق به أيْسَرَ من النطق بالمصطلح العربيّ، مع أنّ هذا الأخير متوفِّر بفضل جهود مجامع اللغة العربية ومكتب تنسيق التعريب، مضيفًا أنّنا نحن من خلق هذا الوضع بسبب تهميش اللغة العربية والانفتاح المنفلت بحيث أصبحنا نستعمل اللغة الفرنسية في أحاديثنا الخاصة، وفي المحافل الدولية التي تؤمَّن فيها الترجمة (في: 240 هيئة) بين اللغات الست الرسمية في الأمم التحدة (ومنها العربية).
وتحدث الدكتور/ جواد الشقوري، المكلَّف بمَهمّة بمجلس الجالية المغربية بالخارج، عن تحديات تعليم اللغة العربية لأبناء الجالية المغربية في الخارج. وقال إنّ الجمعيات والمساجد عاجزة عن القيام بالدور المنوط بها على أكمل وجه، مشيرًا إلى أنّ دور الدولة المغربية ضعيف في هذا المجال، وذكّر بأهمية التعريف بالحضارة المغربية في الخارج، وتقديم اللغة العربية بصفتها لغة حضارة وتعليمها لأبناء الدول المُضِيفة (وليس لأبناء الجالية المغربية فحسْب).
وفي عرض، بعنوان: اللغة العربية في مداراتها العالمية: دروس في تدبير اللغة الوطنية (التجربة الآسيوية)، قال الدكتور/ المصطفى الرزرازيّ، مدير المعهد الإفريقيّ للدراسات الآسيوية، إنّ اللغة تضعف عندما تفقد الشحنة العاطفية، مُشِيرًا إلى أنّ الذين يتحكمون في السوق الاقتصادية والتجارية في المغرب يستخدمون اللغة الفرنسية، وأنّ الترجمة هي الحلقة المفقودة في العالم العربيّ، مذكِّرًا بتجربة كوريا بعد 1950 في مجال الترجمة، وبتجربة اليابان في المجال نفسِه. وقال إنّ الترجمة يمكن أن تدعم ورشات التنمية في المغرب، مُشِيرًا إلى أنّ اللغة العربية تواجه تحديات جمّة على المستوى المَغاربيّ.
وقدّمت الأستاذة/ بُشرى ساحيمدة، أستاذة اللغة العربية الفصحى والدارجة بمركز تواصل الثقافات، عرضًا حول دراسة اللغة العربية في المغرب، من خلال تقديم دراسات إحصائية، وتقارير صحفية، وتصريحات لبعض المسؤولين المغاربة.
وفي الفترة المخصصة للنقاش، الذي كان ثريًّا، والذي وصفه أحد المحاضِرين بأنّه أهمّ من العروض، طُرِح العديد من الأسئلة، ومنها: هل اللغة العربية لغة واحدة أم أنها عدة لغات ؟ وهل اللغة العربية الفصحى لغة تواصل ؟ (في إشارة إلى سهولة التواصل باللهجات المحلية). وما هو مفهوم "اللغة الأمّ" ؟وما مَدى اهتمام العالم بتعلُّم اللغة العربية ؟ وهل العربية لغة صعبة بالمقارنة مع اللغات الأخرى ؟ كما طُرِحت إشكالية ظاهرة ضعف المستوى اللغويّ، وفساد اللغة المتجسِّد في المزج بين عدة لغات في أثناء الأحاديث العادية، وحتى في بعض النصوص المكتوبة...كما طُرِح هاجس الحصول على وظيفة بعد التخرّج في الجامعة (في إشارة إلى أنّ من درس باللغة العربية تكون حظوظه في الحصول على عمل أقل من زميله الذي درس المادة نفسَها باللغة الفرنسية).
وأكاد أجزم بأنّ جميع الحاضرين الذين غصّت بهم القاعة-وأنا منهم-تفاعَلوا بشكل إيجابيّ مع ما ورد من أفكار في عروض المحاضِرين، وما تبعها من تعقيبات وملاحظات وأسئلة.
وجَوابًا عن السؤال، هل اللغة العربية لغة واحدة أم أنها لغات متعدّدة؟ قُلتُ إنّ اللغة العربية لغة واحدة، لكنها ليست على مستوى واحد من الفصاحة، شأنها في ذلك شأن اللغات كافّةً،ويمكن تقسيم مستوياتها-بصفة عامة-إلى ثلاثة: الأول: اللغة الفصحى (لغة القرآن الكريم، والشعر العربيّ الرصين المعتمد، ولغة الفصحاء والعلماء والكتاب الكبار المشهود لهم بالفصاحة). الثاني: مستوى وسط (نمثل له بلغة الصِّحافة). الثالث: الدارجة (وهذه الدارجة أو اللهجة أو العامية تختلف من قطر عربيّ إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى داخل القطر الواحد). كما أشرتُ إلى أنّ اللغة الأم، تعني: اللغة التي اكتسبها الطفل من بيئته ووسطه الذي نشأ فيه وترعرع (من البيت والمدرسة والشارع)، وليست-بالضرورة-لغة أمّه التي ولدته، وهي بذلك قد تختلف عن لغة الأمّ. كما قلتُ، بخصوص النهوض باللغة العربية، إنّ الأمر يتوقف على التدريس بها في التعليم (في جميع مراحله وأنواعه) واستخدامها في الإدارة وفي سائر المرافق الحيوية للدولة. ويتطلّب ذلك الفصْل التامّ بين التدريس باللغة الأجنبية وبين تعلُّمها، فالأول مرفوض لأنه يلغي اللغة الرسمية ويهمّشها ويمنع المتعلمين بها من الاندماج في سوق العمل...، والثاني مطلوب ومرغوب فيه لأنه يساعد على التفاهم بيُسْر والتواصل المباشر مع المتحدثين بهذه اللغة الأجنبية والاطلاع على الكتب والبحوث المنشورة بها. وقد اتفقنا جميعًا على أهمية الترجمة من اللغة العربية وإليها.
وبخصوص ضعف المستوى اللغويّ، أشار الحُضورَ إلى أنّ هذه الظاهرة أصبحت عالمية وأنّ حلّها يكمن في إصلاح التعليم.
وجوابًا عن بقية الأسئلة، أشار بعض المشاركين في الندوة إلى أنّ الاهتمام العالميّ باللغة العربية وبتعلُّمها في تزايُدٍ مستمر.
وجاء في التقارير والإحصائيات التي قدمتها الأستاذة/ بُشرَى ساحيمدة، أنّ السيد/ حسن الداودي، وزير التعليم العالي المغربيّ، صرّح بأنّ خرّيجي كليات الآداب يشكّلون خطرا على المغرب (في إشارة إلى أنّ العلوم والتقنيات أهمّ من الآداب). وقد ذكّرني هذا بما نُسِب إلى الرئيس الموريتانيّ، السيد/ محمد ولد عبد العزيز، أنّه قال-في معرض حديثه عن إصلاح التعليم-إنّ مشكلة موريتانيا هي أنها بلاد المليون شاعر (في إشارة إلى طغيان التخصصات الأدبية على التخصصات العلمية والتكوين المِهْنيّ).
ولعلنا نلتمس العذر لهؤلاء السياسيين، معتبرين أنهم كانوا يريدون أن يَلفتوا الانتباه إلى ضرورة خلق نوع من التوازن بين هذه التخصصات، مراعاةً لمتطلبات التنمية واحتياجات سوق العمل.
ومع ذلك فإننا نرى أنّ الدولة بحاجة إلى جميع أبنائها، وبشيء من التخطيط والإدارة الرشيدة للموارد البشرية يمكن أن نصل إلى التوازن المطلوب دون أن نهضم حق أيّ مواطن. وذلك بصرف النظر عن مجال التخصص.
ومن جهة أخرى، فقد استغرب أحد الحاضرين كيف أنّ بعض المناهضين للعربية يصفونها بأنها لغة صعبة وأنّ ذلك هو سبب العزوف عن تعلُّمها، مع أنّ حروف اللغة اليابانية-على سبيل المثال-يزيد عددها على: 47500، وهذا لم يمنع اليابانيين من التمسك بلغتهم والإقبال على تعلمها واستخدامها في مختلِف المجالات.
وعلى ذِكر اليابان، فقد لَفت نظري أنّ سيدة يابانية تدخلت في أثناء النقاش وقالت إنها جاءت إلى المغرب من أجل أن تتعلّم الدارجة المغربية، لكنها اكتشفت أنّ تعلم هذه الدارجة يتطلّب تعلُّم اللغة الفرنسية لكثرة لجوء المغاربة لإدخال كلمات وتعابير فرنسية في دارجتهم العربية.
وأشير إلى أنّ هذه الظاهرة منتشره في معظم بلداننا المغاربية، وقد أشرتُ إلى ذلك في مقال سابق بعنوان: "العرنسية"، جاء فيه:
فِي العالَم العربيّ ، وبصفة خاصّة في دول المغرب العربيّ-باستثناء ليبيا - يتحدث الناس فيما بينهم ، إلا من رحم ربّي ، بمزيج من الكلمات العربية والفرنسية ، ويستوي في ذلك المتعلم والأميّ ، وما بين هذا وذاك ، فنجد - مَثَلًا - مَن يقول : سافَرت ب " التُّومُوبِيلْ " ، بَدَلا مِن : سافرت بالسيارة . ومَن يقول لسائق السيارة : "فَيْرِي آدَرْوَاتْ " ، بدلا من : دُرْ يَمِينًا أو إلى اليمين . ومن يقول أدوات " الْكُوزِينْ " ، بدلا من أدوات المَطبَخ . ونجد الطبيب يقول للمريض : ارْفَعْ " لِيزْيَهْ " ، بدلا من : ارفع عَيْنَيْكَ . أَنصَحُكَ ب " لَسْبُورْ " خاصة " لَامَارْشْ "، بدلا من : أنصحك بالرياضة ، خاصة الْمَشْي أو السيْر على الأقدام .والقائمة طويلة...!
وسبق أن تحدثت عن هذه الظاهرة المُسْتَهْجَنَة ، في الحلقة ( 13) من "الرقيب اللغويّ "، المنشورة إلكترونيا ، وأعود مرة أخرى إلى الموضوع ، فأقول إنّ هذا النوع من العبث بلغة التخاطب خطير على اللغة ( أيّ لغة)، وخطير على المتحدث باللغة ، لكننا - ربما بحسن نية - لا ندرك هذه الخطورة . من ذلك أنّ هذا السلوك ، يشوِّه اللغة . ثُمّ إنّ من يتعود التعبير بهذه الطريقة المعوجَّة ، لن يستطيع التعبير بلغة سليمة - عند الاقتضاء - سواء أتعلق الأمر باللغة العربية أم باللغة الأجنبية .
أرجو من مُحِبِّي اللغة العربية و المدافعين عنها والمهتمين بسلامة المتداوَل منها ، أن يحاولوا التخلي عن هذه الظاهرة السيئة التي لا نجدها عند الشعوب الأخرى ، وأن يُعَوِّدوا أنفسهم على استعمال الكلمات والمصطلحات العربية المتوفرة ، وأن يتحدثوا بلغة سليمة ، في محيطهم الأسريّ ، ومع الزملاء في العمل ، وفي حياتهم اليومية ، أينما حلوا وارتحلوا . ومن الطبيعيّ بالنسبة إلى الإنسان العربيّ ، أن يكون الحديث - في المواطن المشار إليها وفي غيرها - بلغة عربية سليمة أو بدارجة عربية مهذّبة ( ما يُعرف بدارجة المثقفين ) ، وذلك أضعف الإيمان .