هل يمكن البحث عن جماليّة خاصّة تسكن اللغة النقديّة، وتسهم في تقديم السياق النقديّ تقديمًا مقرونا بالطراوة، والرونق، ووهج الذات؟، هذا السؤال طالما سألته، وأنا أعيد قراءة متون بلاغيّة ونقديّة عربيّة لـ (أزعم) بعد الانتهاء منها أنّ لغة كثير من النقاد القدماء تنفتح على (شعريّة) تمور بالتشكيلات الجماليّة التي ما كتبت إلا للوصف، أو الإضاءة التي تتقصّى فكّ مغاليق الخطاب، أو التحليل الذي يتبنى إبراز القيم البلاغيّة في النصوص القرآنيّة، أو الأدبيّة التي تعرّض لها النقاد في كتاباتهم.
في تاريخ الفكر النقديّ العربيّ القديم لم يُعْنَ ناقدٌ- بحسب علمي- بمتابعة جمال (اللغة النقديّة) من حيث هي سياقات تخضع لنظام التراكيب، أو الانزياح الذي يأخذها إلى طبيعة مغايرة مع أنّ لغة النقد عند كثير من النقاد كانت موّارة بالشعر كما في مقدّمة: الوساطة للقاضي الجرجانيّ (392هـ) ،وكتاب (دلائل الإعجاز) لعبد القاهر الجرجاني(471هـ) ،وستقف هذه (المقاربة) عند كتاب (إعجاز القرآن) للباقلاني (403هـ) الذي ينحو باللغة النقديّة في كثير من مواضعها نحو جمال العبارة المستمدّ من الشعر على الرغم من موقفه الواضح منه الذي رآه من خلال معلّقة امرئ القيس التي وصفها بالابتذال والسوقيّة.
لقد تنبّهت الناقدة بشرى موسى صالح إلى أهميّة اللغة النقديّة من حيث هي (إبداع خاص)، وهي تقرأ لغة الناقد جلال الخيّاط معتمدة في تسويغها على رأي أكثر من ناقد غربيّ معروف، فقد دعا (أوسكار وايلد) كما ترى إلى كتابة النقد الخلاق، أو النظر إلى النقد بوصفه عملًا فنيّا، وترى أنّ (د، هـ، لورنس) دعا أيضا إلى أن يكون النقد (شخصانيّا) في المقام الأوّل، والثاني قبضته العاطفة لا العقل، وهذا ما روّج له (سانت بيف) حين رأى أنّ النقد ابداع. ينظر: منطق كالحرير جلال الخيّاط ناقدا: 35.
إنّ طبيعة اللغة النقديّة في كتاب: (إعجاز القرآن) التي تعدّ إبداعاً خاصّاً يحسب للمؤلف لم تكن ظاهرة عابرة في تاريخ ثقافة المؤلّف، فالباقلاني الذي ألّفَ العديد من الكتب التي تعدّدت بتعدّد عناياته العقليّة حريّ بلغته أن تشير إلى أسلوب مبدعها، وإلى بصمته الفارقة في تشكيل العبارات والجمل؛ لأنّه وريث بيئة ثقافيّة استمدّت أصولها من حاضرتين عملاقتين: البصرة، وبغداد.
ما لفت انتباهي في أسلوب الباقلاني الانتقال، والتغاير في ضمير الخطاب، فيحلو له أن يتحدّث بأسلوب الجمع (نا): «وسألنا سائل أن نذكر جملة من القول جامعة تسقط الشبهات، وتزيل الشكوك التي تعرض للجهّال، فأجبناه إلى ذلك…، ونحن نبيّن ما سبق فيه البيان من غيرنا…»، في لفتة تحيل على العلم، والإحاطة في المادة المدروسة مشفوعة بالأنا العلميّة المتعالية هيبة على سائلها، ولكنه في مظان أخرى يغاير تبعاً لدرجة الالتفات النقدي الذي يشغله: «وأخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين القزويني، وأخبرني»، وكذلك في قوله: «وإنّما أردت بهذا أن أعرّفك أنّ هذه أمور متقاربة، ونحن نعمد إلى بعض قصائد البحتري فنتكلّم عنها»، ولكنه يكتب أحياناً بضمير المتكلم، وهو قليل: «وأحسبُ أنّه لا يسلم من هذا…، سمعتُ… ،وقد بيّنتُ لك أنّ القوم …، وقد أطلتُ عليك فيما نقلت..».
إنّ تغاير ظهور الضمير في متن الكتاب يعطي انطباعاً عن حالة من الاختيارات الأسلوبيّة التي مارسها المؤلف، وهو ينتقل من صيغة ضمير إلى أخرى مصحوبة بقدر واضح من الحضور، أو الغياب الخاص بذاته الموثّقة للخطاب، فحضور الـ(أنا) المضخّمة في: (وسألنا…، فأجبناه…،ونحن…) يعطي انطباعاً عن حضور ذات المؤلف، وهيمنتها على طبيعة السياق، وعلمها بما يجري، أمّا أسلوب الضمير الظاهر: (سمعتُ…، وبيّنتُ…، واطلعتُ…) فيدلّ على غياب الأنا العليا، وحضور سمة التواضع المقترن بالمقدرة، والكفاءة ، وهو في كليهما يريد تطرية حال القارئ الذي كان قد استدعى شكله (الضمني) ، وجوهر وجوده الذهني في كتابه، وإنْ لم يسمّه بـ (القارئ) إنّما كان قد سمّاه بـ (السائل)، و(القائل)، وهو ما بدا واضحا في حضور مجموعة من الموحيات، والإجراءات التي تحيل على مضمون ذلك القارئ، وقد تفاعل (المؤلّف) مع حالاته التي تدلّ على انبثاق المتعة، والمشاركة في إظهار الكتاب.
ومن أسلوبيّته الواضحة في لغة التأليف: أنّه يبتعد كثيراً عن السَجْع؛ لأنّ الأخير في رأيه أسلوبٌ جاهليٌّ مذمومٌ مرذولٌ؛ ولهذا تجد عبارته متهادية مع الفكر بلا أسجاع مثقلة الشكل: «وقد علمنا أنّ القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق، ويبقى علينا أن نبيّن أنّه ليس من باب السجع، ولا فيه شيء منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر».
وقد قُدّر لأسلوبه أن يكون مسجوعاً في حالات محدودة، لكنّ السَجْعَ فيه كان متوائماً مع المعنى بلا وفرة شكليّة متعالية: «فأمّا بيان القرآن فهو أشرف بيان، وأهداه، وأكمله، وأعلاه، وأبلغه وأسناه…»، مع حرص على استخدام الجناس استخداماً طبيعيّاً لا يخلو من تجاورٍ سَجْعيّ: «فالناس بين رجلين: ذاهب عن الحق ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود عن صنعته».
وتتلوّن لغة الناقد بتعبيرات استعاريّة مهمّتها شقّ المعنى للوصول إلى معنى المعنى الذي يحصل عادة عن طريق الادعاء الذي يثير جماليّة الالتذاذ النصّي، ويربي التذوق المرافق للتلقي، والتخييل، ليسهم في تقديم متعة أدبيّة مقترنة بالإدهاش، والجمال، وشعريّة التشكيل المفارق لأصله، يقول الباقلاني مخاطبا قارئه المفترض وهو يتأمّل مأثور السلف وأهل البيان: «ثمّ انظر بسكون طائر ،وخفض جناح ، وتفريغ لبّ ،وجمع عقل…» فالنصّ يمور بالاستعارات التي تتلألأ منها جماليات الألفاظ وقد مُزجت بمعانيها، فللنظر سكون يشبه سكون الطائر استعاره الناقد ليكون معيارا للنظر الموازن الذي اقترحه الباقلاني حلا لإدراك جمال اللغة القرآنيّة، وتبيّن مواقِعِها في العظم، ثم اقترح للنظر نفسه (خفض جناح) لكي يحلّق به في سماء الإبداع بموازاة قريبة من فضائه مستعيرا العبارة من القرآن الكريم، ثم استدرك عليها بـ (تفريغ لبّ، وجمع عقل) لكي يستوفي السياق جملة تحوّله الانزياحي باتجاه لغة نقديّة مفارقة.
ويرغب الباقلانيّ في وصف (الكلام القرآني) بما في الكلام من روح تستجمع الجمال على سبيل الاستعارة أيضا، ولكن في سياق نقديّ لا شعري حين يقول: «والكلام في أوصافه- إن اسْتُقْصِى- بعيد الأطراف، واسع الأكناف؛ لعلوّ شأنه، وشريف مكانه)، فقد جعل للكلام القرآني أطرافا بعيدة كناية عن اتساع مدلولاته، وشمول أحكامه، وكفاية نسجه، فضلا عن أنّه استعار السعة لما يحيط علمه ويصون صاحبه، فهو عالي الشأن شريف المكانة، وقد اقتربت صورته من هيئة إنسان.
وبعدُ: فإنّ اللغة النقديّة حين تقترب من اللغة الشعريّة في بعض متونها فإنّ الهدف فيها الارتقاء بالسياق إلى حافّات الشعر في إطار تجربة إنسانيّة تتوخّى التعبير عن الذات المتماهية مع موضوعها بأسلوب أدبيّ منظّم ، وقد ثبت لهذه (المقاربة) أنّ سمات الشعر في لغة كتاب الباقلاني(اعجاز القرآن) مجموعة من الجماليّات النصيّة التي يستعملها المؤلّف في إبداع نصّ نقديّ محكوم بقوّة حجّته، وسمو دلالته وهو ينشد استعمالا خاصّا للّغة النقديّة ذات القصد الجمالي الواضح، الذي يسهم من خلاله المؤلّف في إشاعة كتاب تسهل قراءته، لتستقرّ دلالاته في العقل.
أكاديمي وناقد من العراق.
فاضل عبود التميمي