مزاحمة الواقعي للتخييلي جديد الكتابة الأدبية

ثلاثاء, 2014-07-22 15:49

« إذا صادف ووجدت شخصيات في الرواية، تشبه شخصيات تعرفها في الواقع، فذلك من وحي الصدفة». كلنا نتذكر مثل هذه الجملة التي كانت تتصدر بعض الروايات، لتحذر القاريء، قبل بداية قراءة النص، من إقامة الصلة بين ما يوجد في الواقع، وما يحكى في النص المتخيل. ولهذا، كان المؤلف/ الروائي يجتهد لكي يلغي كل علامة تشبهه، أو تشير إليه باعتباره ذاتا واقعية.
لم يكن يُطرح سؤال التشابه بين المؤلف والسارد، وبين الشخصية التخييلية والواقعية. أنتج هذا الوضع تعاقدا بين العمل الأدبي والقاريء، بموجبه، ينخرط القاريء في منطق» الإيهام بواقعية ما يحكى». عندما نقرأ اليوم أعمالا سردية، نجدها تخرق هذا الإيهام، وتدخل الواقعي علانية، وبدون إضمار. وضعٌ كسَر أفق انتظار القاريء، فيما اعتبره البعض، كتابة خارج منطق الأدبية. وهي مقاربات قد لا تعطي لتجربة هذه النصوص نوعا من التريث النقدي، من أجل النظر في وضعية المنطق الأدبي، الذي يعيش التحول، بفعل تحول عناصر بنائه. 
السرد هو حالة ثقافية مجتمعية، مرتبط بشكل التنظيم والترتيب. وبالتالي، فالتطور مرتبط بالتنظيم/ الترتيب وليس بالمادة. والمجتمعات الإنسانية لا تعيش نفس حالة التطور، ومن ثمة، لا تعرف نفس التنظيم لمواد العالم. المجتمعات تختلف فيما بينها في نظامها. تقترح علينا هذه الرؤية، الانطلاق من تجربة العمل، وتفكيك منطق بنائه، باعتماد طبيعة الترتيب، ونوعية التنظيم، ولا ننتظر قراءة تجربة بتجربة نظام آخر. قد تتفاعل التجارب فيما بينها، لكن، يبقى لكل نظام سردي شرعية سياقه التكويني. 
هناك نصوص عندما تصدر، تعلن انتماءها إلى المتداول إما في شكل الخطاب، أي طريقة القول الأدبي، أو في طبيعة الموضوعات، ولهذا تحدد نفسها باعتبارها استمرارا كميا في إطار النوع الأدبي السائد. وهذا النوع يجعل النقد يقف عند تحليل البناء، وتركيبته، وما شابه. وهناك نصوص تأتي مستفزة لثقافة القاريء، بأسئلتها غير المألوفة، وتجعل النقاش حولها مثمرا، لأنها نصوص تأتي في شكل مغاير، إما مختلف، أو مخترق للسائد في أدبية العمل الأدبي بالنسبة لنظرية الأجناس الأدبية. وهو نوع يعيد ترتيب منطق النقد، وليس فقط الكتابة، لأنه يدفعه إلى إعادة النظر في مسار تحول مفهوم الأدبية. والتي نعني بها ما يجعل من عمل ما، عملا أدبيا. بدأنا نلتقي بهذا الشكل الأدبي منذ التسعينيات من القرن العشرين تقريبا، لكن بشكل محتشم، ثم تطور هذا الشكل في الكتابة مع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يتعلق الأمر بحضور الواقعي عنصرا أدبيا، بعيدا عن لغة التحذير، أو الإيهام بواقعية ما يحكى. وعرف هذا الحضور للواقعي تجليات عديدة، تأتي إما على شكل شخصيات معروفة في الواقع، أو تواريخ موشومة في ذاكرة القاريء. لكن، أهم مظهر دعَم هذا الحضور، هو إعلان الروائي عن اسمه داخل العمل الروائي، بصريح العبارة، كما نجد في رواية «سرة الكون» (2006)، للكاتب الليبي»محمد الأصفر»، «سأكتب رواية قوية جدا اسمها اسمي أصفر» (ص15). أو في عمل الكاتب المغربي»عبد القادر الشاوي» في نصه «من قال أنا؟» (2006)، حيث يسرد المؤلف عبد القادر الشاوي الفصل الرابع، ويحكي عن روايته السابقة «دليل العنفوان» (ص85)، أو ما عبَر عنه العمل الأخير للكاتب المغربي محمد برادة «بعيدا عن الضوضاء قريبا من السكات» ( 2014)، والذي يسرد فيه تاريخ المغرب من الاستعمار إلى فترة الاستقلال، من خلال هذه العلاقة الملتبسة بين الواقعي والتخييلي، والتي اشتغل بها برادة في مجمل أعماله السردية، محاولا البحث عن اللحظة الهاربة روائيا. غير أن هذا الحضور للمؤلف داخل النص، ليس له أي علاقة بالسيرة الذاتية. ولكن، يحدث هنا تداخل بين مجالات كان النقد قد ميَز بينها، مع هيمنة مفهوم «النص»، وهي مجالات التأليف (الكتاب بصفته المادية) والكتابة (ما قبل بداية النص) والنص (بداية السرد). وهو توزيع يجعل المؤلف خارج مجالي الكتابة والنص، أي خارج المادة المتخيلة. ماذا يحدث للكتابة، عندما يتحرك المؤلف باتجاه النص، ويتحول إلى عنصر سردي؟.
يثير نص» أضغاث أحلام» ( 2013) للكاتب المغربي» ماء العينين ماء العينين» إشكالية الواقعي- التخييلي، وسؤال التجنيس. وهو نص مؤهل– في الوقت نفسه- إما للاحتفاء به، باعتباره تجربة سردية تطوَر النقاش النقدي حول تبدلات العلاقة بين الواقعي والتخييلي، كما أنه مُعرَض لمناوشات نقدية، لكونه يأتي خارج التعاقد المألوف، لأنه نص مربك لمساحة التخييل، من خلال الانتصار للواقعي، وجعله عنصرا حكائيا، وسرديا، لا يتحقق النص إلا به، ومن خلال وجوده المصرَح به.
«أضغاث أحلام» نص يعيش بين حلمين: حلم توثيق سمر ليلي، جمع ذات يوم بين المؤلف/ ماء العينين وصديقيه الإدريسي ورحال، بعد فراق دام سنوات. وحلم الكتابة السردية التي حوَلت التوثيق من الشفهي المنفتح على التداعيات والذاكرة، والمشتت حسب إيقاع السمر الليلي، وفضاء المجلس إلى المكتوب المنظم والمرتب، والذي يجعل مواد الحكاية الشفهية تدخل في الترتيب، ويصبح لها نظاما، يبدأ تجليا، وينتهي دالا. 
بناء على الحلم التوثيقي الأول، اعتمد المؤلف في سرد حكي السمر الليلي على الذاكرة، والوثيقة، والسيرالذاتية، والمحكيات، وملفوظات الغير، والبوح الذاتي، والشعر، والتقارير الحقوقية والسياسية، والوثيقة التسجيلية، والشهادة والتاريخ، وهي كلها أنواع تعبيرية جعلت النص يعرف ما يسمى بالتشظي، وعبر هذه الأنواع حكى المؤلف عن تجاربه المتعددة وهو ابن الجنوب عن مرحلة الدراسة بمراكش، والجامعة بالرباط، وانخراطه في سلك القضاء، وانتمائه لهيأة الإنصاف والمصالحة، واشتغاله في ميدان حقوق الإنسان، والدفاع عن وطنيته من خلال التزامه بقيم إنسانية وحقوقية.
لكن بناء الحلم الثاني/ الكتابة جعل لهذا التشظي منطقا، وهو ما عبَر عنه ميخائيل باختين حين تحدث عن الواحد داخل التعددية، معتبرا أن العناصر الأسلوبية المتنافرة تمتزج فيما بينها، تحت تأثير ما يسمى بالوحدة العليا الأسلوبية. لأن كل ملفوظ/ تعبير يدخل النص، ويقترح رؤية من زاوية معينة. وعندما ترتب الكتابة هذه الزوايا، نصبح أمام نظام منظم بوحي لحظة الحلم الثاني الذي يأتي مفارقا للحلم الأول. وهذا هو دور الكتابة الأدبية، ألا تقول ما نقرر قوله. هذا ما يحدث في أضغاث أحلام. أجزاء تبدو متنافرة من حيث عناصر الخطاب، غير أنها تحقق نوعا من الترابط في إطار ما يسمى العلاقة بين الكل وأجزائه.
بين الحلمين تحقق «أضغاث أحلام» خطابها السردي الذي يأتي مختلفا عن السائد، لكون العناصر الواقعية تشكل مواد الحكي، إذ تحضر قضية الصحراء محورا جوهريا يبدأه الحلم الأول باعتباره انشغالا وطنيا من قبل المؤلف، ويحوَله الحلم الثاني/ الكتابة واقعا تاريخيا جغرافيا بانتصار السرد للإيقاع الداخلي بين شمال وجنوب المغرب، وللبعد الأنثروبولوجي الذي يوثق للتقاليد والأعراف والمحكيات، والتي تشكل الذاكرة الجماعية. لا يوظف الكاتب تقنيات للتمويه بالمواد الواقعية، إنما هو مُصر على أنه يوثق سمرا ليليا، جمعه بصديقيه، ولهذا كان حريصا على حكي ما دار بين الأصدقاء الثلاثة. كما أن هذا التشظي الذي يبدو بفعل اختراق المواد الواقعية بسياقاتها ولغاتها مجال التخييل السردي، قد عرف ما يسمى بالحوارية بين أجزائه. ولهذا، تراجع أفق التوثيق لصالح الحوار بين هذه المكونات، أو بالأحرى بين الواقعي كما يتمثَله المؤلف والإدريسي ورحال، والتخييلي كما يتشكل أفقا للوعي الممكن. 
عبر هذا التركيب نتجاوز الحكي الذاتي التوثيقي، وندخل حكيا حواريا بين محكيات اجتماعية، وخطابات سياسية، ورؤى فكرية، ومواقف حقوقية، وهي حوارية تأخذ مرة بعدا ساخرا، وأخرى اصطداميا ومرة ثالثة بعدا تصالحيا. كما أنها حوارية تخرج إلى مجال الواقع، وتدرج القاريء في مساحتها. 
بهذا الشكل في أسلوب الكتابة الأدبية، بدأنا نتجاوز مفهوم النص الذي هيمن على الدرس النقدي الحديث، خاصة بعد ذهاب رولان بارت إلى القول بموت المؤلف سنة 1968. غير أن انفتاح النص- في القراءة- على التاريخ والجغرافية والمجتمع والثقافة، لا يعني استهلاك الرؤية التقليدية ذات العلاقة بالمنهج التاريخي، والواقعي، والاجتماعي، تلك الرؤية التي كانت تجتهد للبحث عن تفسيرات، وشروحات للنص من خارجه، إنما ما يحدث هنا، هو إدخال المؤلف لمساره الواقعي داخل النص من أجل إعادة قراءة المسار، وتأمله، وإنتاج وعي به.

زهور كرام