قبل 11 عاما و10 أشهر على وجه الدقـة والتحديـد، استهل مقالـي الأسبوعـي المنشور آنـذاك، على صفحات جريدة الشعب الحكومية بما يلي )عندما تهب الجموع وقوفا، وترتفع الهامات إجلالا، لدى سماع معزوفة موسيقية حماسية قوية، يغلب عليها الضرب والخبط، ويرافقها الإحساس بالشجاعة والقوة، فأعلم أن كل تلك التصرفات والمراسيم تدل على أنك في حرم "النشيد الوطني")، كان ذلك في شهر نوفمبر 2007، لكن الطريف هـو أن خاتمة المقال ارتكزت على استشهاد للدكتور بلال ولد حمزة وكان خلالها عضوا قياديا فـي تكتل القوى الديمقراطية RFD فتحدث قائلا "أعتقد أننا لم نعد من الغباء بحيث تنتقي لنا الحكومات رموز وطننا، بـل القضية تحتم إجراء مشاورات إن لم تكن في حجم الأيام الوطنية للتشاور فإنه ينبغي أن تراعي فيها جملة من الأمور أولها إجماع الموريتانيين"؛ وبطبيعـة الحال تحولت حيـاة المتحدث السياسية بعد ذلك وانتقل الى صفوف حزب الاتحاد من أجل الجمهورية UPR، ومـن ثم جرى تعيينه عضوا في لجنـة صياغـة نشيـد كان يتوق إلـى حصـول إجماع علـى كتابة/إعادة صياغته إن أرادت الدولة التخلي عنه.
***
كان بابه الشيخ سيديه رحمه الله ميالا الـى جواز سيطرة المخالف في الدين وحكمه للمسلمين من أبناء المجال المحلي بحجـة لا يحسها أبناء موريتانيا المعاصـرة وإن كانت تصب في وعاء نحـن من يسعى إلى خرقه هذه الأيام؛ فالشيخ بابه حينما أدرك أنه بالإمكان وقف "السيبة" وسط ركام الإغارات وتعاظم النزاعات القبلية والعداءات الأميرية، وغير ذلك مـن الصور الهمجية غيـر المريحة لجميع الأطراف والجهات والمكانات، واصـل مضيه في تجسيد استيراتجية المهادنة التي تقف على جسـر قويم من القيم الروحية "كن للإله ناصــرا" الى جانب المساومة على تأمين المسلمين وقـد تحقق المراد من النقطـة الأخيـرة، ولا طائل في هذا المقام من التطويل في تبيان مغانم الموريتانيين من الدولة الحديثة.
منذ أشهـر من الآن خيمت التجاذبات والشتائـم المتبادلـة عبر القنوات الفضائية والتدوينات الافتراضية إضافة الى المزايدات الجهوية الحزبية الضيقة، وكاد التبرم من مهيئات وطن أَسَسَ له الشيخ سيديه، بابه تكون الاتجــاه الطاغـي والأبرز في المطارحات الحاليـة، وهـي في أغلبها مستفزة أو أنها بمثابـة طعم يخشـى أن يجـر المرء الى دائرة صفريـة من الجهوية المقيتة، ولكن لم يكـن مواتيا لنا مناقشـة موضوع التأسيس برمته كما هو حاصل الآن، وخاصـة عند إثارة التساؤل حول المكانة التي يجب أن ننتزعها من أنياب العدميين والطفيليين لفائدة الإقرار بمكانة مؤسسي هذا الوطن )اذا كنا سنتفق أيضا على ان له مؤسسون).
إن ما يذكّر بهؤلاء المؤسسـون ليس ما تبقى من كعكـة الحزب الواحد التي لا يشتهي الجميع مذاقها ولا صلاتهم بالسلطات الاستعماريـة التي لم تظفر منها فرنسا الا بطـي علمها نهائيا وبعلاقات تاريخية لا تزال اليوم ممتـدة، لقد أبقى لنا هؤلاء المؤسسـون بما في ذلك الشيخ سيديه، بابه رموزا عديدة وحدودا معترفا بها ورؤى لو اشعناها لكنا أمـة قائمة بحد ذاتها ولكـن سنوات القحط والتصحر جعلتنا ندمن التسول ثم الإدمان على ان نسند اظهرنا بدول وأمم مُرابيةٍ في تعاملها مع حكوماتنا، إن ما يجب أن يتذكــره أساسا المدونون هـو أن فضاء سائبا أوجـد المشيئة الإلهية أشخاصا لـم يثبت أنهم انتدبوا أنفسهم للدفاع عن فِرْكانٍ أو اخْيامٍ أو حُللٍ اميرية وانما اقتطعوا من أديـم برْزَخٍ سائبٍ مكانة اعترف العالـم بهويتها واكتسب سكانها أفرادا وجماعات قيما معنويا تشحذ الهمم متـى أرادوا التغنـي بنموذجها رغم حجم المُكدرات.
الوطن ليس طينا وماء فحسب؛ كما يقول محمود درويش بل هو فكرة ثم مفهوم قابل لأن يعاش وأن يطـور، ولكن من يود تطويره دون أن يقـر بتراكمات التأسيس وبأهمية مكابدات المؤسسين سوف لـن يكون منصفا وبالتالي سينضم إلى لائحـة عريضة وطويلة من المتقاعسيـن وهــم أصحاب المزادات الشهيرة في تاريخ موريتانيا فقـد حاربوا ضدها بالسلاح وفي المنابر الديبلوماسية وكتبوا بسخرية عـن جمهورية "لَمْرابَطْ" ولكنهم حيـن يعودون تستقبلهم القطعة الأرضية التي صارت دولـة بابتسامة عريضة وتفتح لهم صناديق الاقتراع بعد أن يعبئوا الفركان ولخيام والحلل.. إنها مقاربة تقتضي الحزم حتما.
***
قلب القصيـد من هذا المقال؛ يقتضـي تبيان القول بأن نشيـد موريتانيا الجديد ينبغـي أن تُحفظ في مقاطعه وأبياته حقـوق البيظان ولحراطين والبولار والسركلة والولوف، و أن يدغدغ لحنه عواطف الجميع قبل أن يؤجج حماس الشرائـح والأجناس والجهات، ثـم عهد علينا أن نسميه بعد ذلك نشيدا وطنيا جامعا وأن يكرمنا هـو بالمواطنة.
هنالك حقائق ثلاث يجب الأخذ بهما: أما أولهما فهـي أن النشيد الوطني الموريتاني لا ينتظـر من لجنة صياغته أن تصيـره بيانا فئويا أو حزبيا لفائدة جهة ما معيـَّنة قد يشتم من خلاله – أي النشيد – نظرة هذه الجهـة أو تلك. وثانيها ينبغـي إدراك أن تراث الشيخ سيديه، بابه الروحي والأدبي والسياسي هو قيمة أشمل وأسمى من كل ذلك بكثير، وأن المطلوب الآن ليس تضمين النشيد القادم بأبيات من قصائـده إن الجهد الأوكد هـو أن ترصــد لمسيرته التوحيدية جوائزا وطنية وأن تقام المراكز البحثية باسمها وأن يطلع سكان موريتانيا المعاصـرة علـى أنه بمثابة رمز وطني له ما لـه وعليه ما عليـه، ولا أحـد يقول بأن "الرجل كالحمل الذي يزيل خطايا العالم".
وثالثة الحقائق هـي أن الأمـل في لجنـة الاقتراح منعدم لأسباب أجملها فـي كونها خليط يضم العشرات من المثقفين والشعراء ولَمْغَنْيِينَ والصُحفيين وأشباه رجال الدين والمهرجين والدجالين من أصحاب الدكاكين المفتوحـة في المواسم السياسيـة، وبما أنه لـم يتم الإعلان عـن ترشيحات أو مسابقات لاختيار فريق الكلمات، فإنني أتقـدم بهذه القراءة السريعـة لجزئيات ثلاث تفرزها تشكيلـة لجنة اقتراح النشيد الوطني كما تضمنها المرسوم الرئاسي الصادر بالأمس الموافق لـ 21 أغسطس 2018:
الجزئية الأولـي: أن اللائحـة لا تتضمن شعـراء "الصعاليك"-إن صـح التعبيـر- فالأعضاء هـم اما موظفون سامون أو أجراء في القطاع العام غالبا، ولعــل "معلقة الغضب" التي كتبها شعراء غاضبون من رئيس الجمهورية قـد ساهمت فـي تحديد اختيار أعضاء اللجنة، والتساؤل يرد هنا بطرافـة إن كان الإداريون وكبار الموظفين سيعملون ناقديـن لزملائهم الشعراء؟ وعلـى أي أساس سيتم ذلك؟
الجزئية الثانية :
أكاد أجزم أن الأميـر محمـد ولد الطالب، هــو عراب هذا النشيـد وأن مخيلته ستكون كفيلـة لو اطلق لها العنان وسلمت من البيروقراطية الادارية والقرابية القامعـة منذ مـدة لجموحه الإبداعي،... وأخاف أن يسقط في ذلك الفـخ المستشار القاضي ولد محمد عينينا والذي هـو صاحب كلمات نشيد ميثاق لحْرَاطِينْ كما أنه من طينة المناضلين الكبار، والى جانبهما يرد ذكر صديق طفولتنا يعقوب ولد عاشـور وهو المبدع المحسوب على شريحة لمْعَلْمينْ، وتنضاف الى قائمة المبدعيـن هذه الأمير سيدي محمد ولد بمب، والشيخ جاكيتي سيك صاحب قصيـدة "مِـعْـرَاج":
أنا لُغْزُ هـذا الـكـونِ يـا عَـرَّافَـتِـي فَلْـتَشْرَحِـي للعـالَمـيـن بُـرُوقِــي
فُـكِّـي الـذي لـمْ يستطـيـعـوا فَكَّهُ عن سَـائِسِ الأبْقـارِ.. حَـادِي النُّـوقِ
وإذا اشْتَهَى الـتـاريـخ كـشف هُوِيَّتِي فـأنـا سلـيل عُـرُوبَـةٍ إِفْـرِيــقِـي
والى جانب هذه الأوجه طغـى على بقية الشعراء التوجه القومي العروبي، دون أن يقلل ذلك من عبقريتهم الشعريـة وهكذا ترد الأسماء التالية ناجي محمد الإمام، - الشيخ ولد ببانه الملقب أبو شجه، -ثم كابر هاشم الرئيس الأسبق لاتحاد الادباء الموريتانيين..الخ
الجزئية الثالثة : النواقص الملاحظة
يفيـد الحديث بموضوعية عن اللجنـة التأكيـد على أنها تتضمن سعــيا رسميا لمحاولـة اشـراك الطوائف الطرقية والمذهبية؛ فمثلا عبد الله السيـد هـو تجانـي من قريـة تمبيعل وينضاف الـى ذلك تواجد أدباء من القوميات الزنجية من بينهم الإمام بونا عمر لي وهـو شاعر بالفصيح فهـل سيجنح على لغته الأم ويصـر على أن يتضمن النشيد كورالا من اللغة البولارية؟ وأيضا يرد ذكـر رئيس جمعية بوتلميت للثقافة والتراث، الأستاذ محمد ولد المبروك الملقب بكين وهـو امْغَنـي بالشعـر اللهجـي جرى اضافته ضمــن آخريـن في أغلبهم لديهم ميول قبليـة أو جهوية ضارة واحيانا لا تتفق مع الطابع الرمزي للمهمة!.
هنالك حضـور معتبـر للرواة وكتاب القصـة إلى جانب حضـور محتشم لللاتي يشكلن ما نسبته 51بالمائة من السكان أي النساء حيث تتضمن اللجنة باته منت البـراء؟.
واذا كان حضـور المبدعيـن من شريحة لحراطين قـد شكل إستثناء لافتا فإن الملاحظـة الأبرز هنا تكمن في غياب الملحنين أو أسماء لموسيقيين معروفين، وكان بودي لو استعانت اللجنـة بملحنين وطنيين او أجانب لتغطية نقصها الملاحظ فقـد يتمكنون بفضله من تطويع النوتة للكلمات المقترحـة.
وعلى كل حال فالمطالب القاضية بتغيير كلمات النشيـد الوطنـي ليست وليدة اليوم فقـد جرى التشديد عليها في ورشات الأيام الوطنية للتشاور المنعقدة ما بيـن 20 إلى 22 نوفمبر 2008، كما سبق للجنة العسكرية برئاسة المقدم محمد خونه ولد هيدالة وأن شكلت لجنة لنفس الغاية والغرض، وتنشط أحزاب تتناغم أدبياتها الفكرية والسياسية مع هــذا المسعـى لكن لأسباب سياسيـة بحتة تنشط الآن في الصف الرافض لتغييرها؟. كما أن مواقـع الأشخاص الحزبية يعد عاملا مهما في مواقفهم تجاه الرموز.
سأنهـي هذا المقال بقصـة أبقاها للقرء التراث العربي وهـي تحوي أن اميــر زعــم انــه يـعـرف الشـعـر فأنـشد يومـا قصـيـدة امـام جـحـا وسأل الأخير أ ليـست قصيدتـي بليـغـه؟ فــقـال جـحـا ليـس بـهـا رائـحـة البـلاغـة فـغضـب الامــير وأمـر بحـبسه فـي إسـطبـل الخيول وظـل جـحا محـبـوسـا مـدة شـهـر ثـم اخـرجه وفـي يـوم اخـر نـظم الأميـر قصـيدة ثانية وانـشدهـا أمام جـحا فـقام جـحا مـسـرعا فسـأله الامـير إلى أيـن يا جـحا؟
فـقال لـه إلـى الاسطـبل يا سيـدي الأميـر
أتمنــى ألا تتمخض لجنة الـ39 عـن شتائم أخرى
بقلم عبيد اميجن
كاتب وإعلامي