تأثير اللسان العربي في اللغات الإفريقية (صَوتًا ومُعجمًا وتركيبًا)

أحد, 2019-04-21 14:21

إسلمو ولد سيدي أحمد 

كاتب وخبير لغوي وباحث في مجال الدراسات المعجمية والمصطلحية

ليست اللغة أصواتًا يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم فحسْب-كما عرّفها ابنُ جني وغيرُه من القدماء-وليست أيضًا أداةً للتواصل بين الجماعات والشعوب فقط، كما يَجيء في تعريفات أخرى. لكنها مع ما تقدم من تعريف، ترتبط ارتباطا وثيقا بالفكر والعقل والشعور وخلجات النفْس. وهي بذلك هُوية الإنسان ووعاءُ فكرِه وتراثِه، وسِجِلُّ تاريخه.

ودون الخوض في التاريخ- لإظهار ما للسان العربي من إرث حضاريّ ومكانة مرموقة بين اللغات القديمة-أوالتوقف عند الفترات الزمنية التي عرفت فيها اللغة العربية صعودا وهبوطا، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى أنّ لغة قريش كانت-قبل نزول القرآن الكريم-أفصحَ لغات القبائل العربية، ثم ازدادت فصاحة بعد نزول القرآن الكريم وانتشرت العربية بانتشار الإسلام في أرجاء المعمورة.

يقول الفرّاء: كانت العرب تحضر المَوسِمَ في كل عام وتحج البيتَ في الجاهليّة وقريش يسمعون لغات العرب فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به فصاروا أفصحَ العرب وخلت لغتُهم من مَسْتَبْشَعِ اللغات ومُسْتَقْبَحِ الألفاظ". انتهى كلام الفرّاء.

لقد ازدهرت اللغة العربية في مرحلة ازدهار الحضارة الإسلامية في المشرق والمغرب و في الأندلس ثم بدأ الضعف يَدِبُّ في أوصالها بدرجات متفاوتة بعد سقوط الأندلس وخضوع العالم العربيّ فيما بعدُ للاحتلال الأجنبيّ الذي أجهض النهضة العربية التي حاولت إعادة الأمجاد الغابرة.

يُستنتَج من هذه الإشارات الخاطفة، أنّ اللغة تقوى بقوّة أهلها وتضعف بضعفهم، ثم إنها كائن حيّ تعتريه أحوال القوة والضعف والصحة والمرض والموت.وهي كذلك كالعضو الحيّ يقوى وينمو بالاستعمال ويضعف بل يموت إن هو ظل معطَّلًا عن العمل. وهنا تكمن ضرورة إحلال اللغة العربية محل اللغات الأجنبية التي زاحمتها في أوطانها إبّانَ الاحتلال الأجنبيّ الذي خرج بجيوشه العسكرية وترك لغته تهيمن على القطاعات الحيوية في معظم بلداننا العربية والإسلامية حتى يومنا هذا.

ومهما يكن من أمر، فإن العربية-لغة القرآن الكريم- لغة ضاربة بجذورها في التاريخ وتفتح صدرها لكل جديد، حملت مشعل الحضارة الإنسانية دون انقطاع، و هي اليوم لغة رسمية في منظمة الأمم المتحدة إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والإسبانية و الروسية و الصينية.

ولا شك أن ترسيمها في الأمم المتحدة، ضمن ست لغات فقط من ستة آلاف لغة في العالم، لهو خير دليل على أنها لغة عالمية بكل المقاييس.

 

وعلى الرُّغم مِن قلة ما توفر لدي من مراجع في مجال العنوان الذي اخترته لهذا البحث، فقد ارتأيتُ أنّ طرحَه في ندوة: اللغة العربية في القارة الإفريقية (تأثير العربية في اللغات الإفريقية من منظور لسانيّ)، قد يفتح الباب مستقبَلًا لمزيد من البحث في هذا الموضوع الحيويّ.

إنّ الحديث عن عمليتي التأثير والتأثُّر بين اللغات، يتطلب قدرا كبيرًا من الاطلاع على اللغات موضوع الدراسة. كما يستدعي استقراء التاريخ الثقافي والحضاري للناطقين بهذه اللغات.

يقول الدكتور/ عبد العزيز بن عثمان التويجري، في مقدمة كتابه "حاضر اللغة العربية": "لقد علمنا التاريخ الثقافي والحضاري للأمم والشعوب، أنّ في ازدهار اللغة ازدهارًا للحياة العقلية، وتقدما في مضمار العلوم والفنون والآداب، وأنّ في قوة اللغة قوةً للأمة الناطقة بها، وأنّ اللغة تكتسب قوتها من إبداع أهلها بها، ومن تفوقهم في هذا الإبداع الذي يَشمل نواحي الحياة العامة". ويقول في كتابه "اللغة العربية والعولمة"، تحت عنوان "مستقبل اللغة العربية": إنّ مستقبل اللغة العربية هو جزء لا يتجزأ من مستقبل الأمة العربية الإسلامية، فإذا ازدهر وأشرق وكان أفضلَ من الحاضر، ازدهرت اللغة العربية وتطورت وتحسّن وضعها. انتهى الاستشهاد.

وما دامت اللغة تكتسب قوتها من إبداع الناطقين بها، فلا بد-قبل الحديث عن ظاهرة التأثير والتأثر بين اللغات-أن نلقي نظرة على جوانبَ مضيئةٍ من إبداع العلماء المسلمين عبر التاريخ.

قد يقول قائل إننا نُكثِر من التغني بالأمجاد الغابرة أكثر من العمل الراهن والتخطيط للمستقبل.

وتعليقا على هذا التصور الوجيه، نقول إنّ الأمة الراشدة يجب أن تستفيد من تجارب الماضي ومن معطيات الحاضر، وُصُولًا إلى استشراف المستقبل.

يقول الدكتور/ مصطفى يسري عبد الغني، في بحث له منشور في مجلة "الرافد" الإماراتية. عدد يونيو 2014م، تحت عنوان: "الثقافة العالمية/ الثقافة الإسلامية في المشهد"، إنّ أكبر ما قدمته قرائح رجال الفكر الإسلامي للثقافة العالمية هي أعمال فلاسفة ومفكري الإسلام أمثال:

ابن باجة، وابن تيمية الحراني، وابن حزم الأندلسي، وابن رشد رائد العقلانية ومؤسس مذهب الرشدية، والشيخ الرئيس ابن سينا، وابن طفيل، وابن عباد الرندي، وابن مسكويه، وأبيالوفاء، وإخوان الصفا، والأشعري، والإيجي، والبغدادي، والبيروني، والرازي أبي بكر، والرازي فخر الدين، والشهرستاني، والطرطوشي، وعبد الجبار المعتزلي، والفارابي، وأبي حامد الغزالي، والقشيري، والكرماني، والكلاباذي، والكندي، والماوردي، والمقدسي،وغيرهم.

كذلك أعمال علماء المسلمين في ميدان الجغرافيا بجميع أنواعها وبشتى فروعها، من أمثال:

 اليعقوبي، وياقوت الحموي، والمقدسي، والسعودي، والقزويني، والدمشقي، والبكري، والإصطخري، والإدريسي، وأبي الفداء، وابن رسته، وابن دقماق، وابن خرداذبة، وابن حوقل، وابن جبير، وابن بطوطة، وابن الفقيه، وابن الجيعان، وابن الحائك،وغيرهم.

وفي ميدان الدراسات التاريخية بمختلِف أنواعها، لا ينسى الباحث-يقول الكاتب-إسهامات المسلمين المتنوعة، المتمثلة في أعمال:

ابن الأثير، وابن الجوزي، وابن الخطيب، وابن الصيرفي، وابن العديم، وابن الفرات، وابن الفلاني،  وابن إياس، وابن تغري بردي، وابن خلدون، وابن خلكان، وابن شداد، وابن عبد الظاهر، وابن عذاري، وابن مماتي، وابن واصل، وأبي الفداء، وأبي شامه، وأسامة بن منقذ، والبلاذري، والجبرتي، وابن المقفع، وسبط بن الجوزي، والسخاوي، والسيوطي، والطبري، وعبد الرحمن، وابن نصر، والشيرازي، وعماد الدين الأصفهاني، وعمر بن إبراهيم الأوسي الأنصاري، والكندي، والمسعودي، ومسكويه، والمقري، والمقريزي، والصابئي، والأنطاكي، وليونيني،...وغيرهم.

وفي الدراسات الأدبية والنقدية والإبداع الأدبي، تقف شامخة أعمال كل من:

 الميداني، وياقوت الحموي، والمفضل الضبي، والمرزوقي، وأبي الطيب المتنبي، والمبرد، والكميت بن زيد الأسدي، والقلقشندي، وقدامة بن جعفر، وأبي علي القالي، والفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي النميري، وعبد الله بن المعتز، وطرفة بن العبد البكري، وحسان بن ثابت، ومحمد بن سلام الجمحي، وعبد القاهر الجرجاني، والقاضي عبد العزيز الجرجاني، والجاحظ، والقزويني، والتبريزي، وابن رشيق، وبشار بن برد، وبديع الزمان الهمذاني، وأبي القاسم الحريري، وابن دريد اللغوي، والثعالبي، والبحتري، وأبي تمام الطائي، وأبي هلال العسكري، وأبي العلاء المعري، وابن هانئ الأندلسي، وأبي نواس، وعمر الخيام، وابن قتيبة الدنيوري، وابن الأثير، وابن المقفع، وابن بسام، وابن خفاجة الأندلسي، وغيرهم من النقاد والدارسين والمبدعين.

وفي الكتابة عن العمارة، نذكر جهد كل من:

ابن شحنة، وابن جبير، وابن رسته، وابن فضل الله العمري، والبلوي، والحنبلي، والخطيب البغدادي، والمقريزي، واليعقوبي،وغيرهم.

وفي الفنون الجميلة والموسيقى، تسطع أعمال كل من:

ابن سينا، والأرموي، والحسن بن أحمد بن علي الكاتب، والمفضل بن سلمه، والكندي، والفارابي، واللازقي،...وغيرهم.

وفي العلوم الطبيعية وفروعها، تبرز بحوث وإنجازات كل من:

المجوسي، والمجريطي، والكرخي، والكحال، والكاشي، والقوهي، والقزويني، والقرطبي، والفارسي، والغافقي، والطوسي، والرازي، والدينوري، والدميري، والداودي، وداود الأنطاكي، وحنين بن إسحاق، والخوارزمي، والجيلي، والجلدكي، والجاحظ، والتيفاشي، والبوزجاني، والبيروني، وابن البيطار، وابن النفيس، وابن بدر، وابن جلجل الأندلسي، وابن سيده اللغوي الضرير، وابن سينا، وابن عراق، وابن قرة، وأبي البركات هبة الله، والإدريسي، وإسحاق بن عمران،وغيرهم.

وفي الدراسات اللغوية، تبرز جهود وأبحاث كل من:

ابن الأثير، وابن السكيت، وابن دريد، وابن سلام، وابن سيده، وابن فارس، والأزهري، والزمخشري، وابن منظور، والجوهري، وسيبويه، والسيوطي، والفيروز أبادي، وأبي زيد، والتهانوي، وثعلب، والجواليقي، والخفاجي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، والزبيدي، والفيومي، والمبرد، والأصمعي،...وغيرهم.

وفي العلوم الاجتماعية وفروعها، نرى جهد كل من:

ابن الشحنة، وابن الصيرفي، وابن تيمية، وابن جماعة، وابن خلدون، وابن سلام، وابن سينا، وابن طباطبا العلوي، وابن طيفور، وابن عبد البر، وابن عبد الله، وابن مماتي، والأصفهاني، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، وإخوان الصفا، والبلاذري، والبيهقي، والتنوخي، والجاحظ، والجهشاري، والخصاف، والدمشقي، والدينوري، والزرنوجي، والطوسي، والطرطوشي، والقباني، ومسكويه، والنعيمي، والشيباني، والصابئي، والغزالي، والفارابي، والقابسي، والقرشي، والقلقشندي، والكندي، والماوردي، والمسعودي، والمقريزي، والهيثمي، ...وغيرهم.

وفي الدراسات الإسلامية والفقهية، تظهر اجتهادات ودراسات وبحوث كل من:

ابن الصلاح، وابن المرتضى، وابن النجار، وابن الهمام، وابن حبان، وابن حبيب، وابن حزم الأندلسي، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وأبي داود، والدرامي، وأبي حنيفة النعمان، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن عابدين، وابن قدامة الحنبلي، وابن قيم الجوزية، والآمدي، والباجي، والصنعاني، وأبي جعفر الرازي، والنووي، والنيسابوري، والمرغيناني الحنفي، والمرداوي، والماوردي، والقرافي، والكسائي، والغزالي، والقرطبي، والطبري، والزمخشري، والرامهرمزي، ...وغيرهم.

وأخيرًا وليس آخِرًا، نجد العديد من أصحاب الموسوعات أو المؤلفات العامة، وعلى رأسهم:

ابنُ النديم، والبغدادي، والبلوي، والقلقشندي، والنويري، ...وغيرهم.

وإذ نشكر الكاتب على سرد هذه النماذج المشرفة من أعمال السلف الصالح، فإننا نرجو أن يجد فيها الخلف ما ينير الطريق ويذلل الصعاب من أجل أن تظل الأمة الإسلامية عزيزة مكرمة تحتل المكانة اللائقة بها بين الأمم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.

وبخصوص تأثير اللغة العربية لغة القرآن الكريم، في اللغات الإفريقية، فقد جاء (بتصرف) في كتاب: "الثقافة العربية الإسلامية في غرب إفريقيا" للدكتور/ عمَر محمد صالِح الفلّاني عُمَر بَا، تحت عنوان: تأثُّر اللغة الفُلّانيّة باللغة العربية:

 إنّ تفاعُل الفلَّانيين مع الثقافة العربية الإسلامية، أمر من العمق بحيث يَلفِت نظر الباحثين اللغويين.

 وقد تكون بعض ظواهر التأثُّر قد وصلت-بدرجات متفاوتة- إلى كل مسلمي غرب إفريقية كما يتفاوت اليوم تفاوتا ملحوظا تأثر اللغات الإفريقية باللغات الأوروبية التي لها الغلبة اليوم في إفريقيا.

من ذلك-على سبيل المثال-أنّ أيامَ الأسبوع في اللغة الفلّانية كلَّها عربية جرى تشويهُ مَخارِجِها، مِثل: السبت: (آست: aset)، الأحد: (آليت: alett)، الاثنين: (تنينق: teneng)، الثلاثاء: (تلات: talaata)، الأربعاء: (آلَرْبَ: alraba)، الخميس: (الكميس: al-kamise)، الجمعة: (الجمَ: alguma).

ولا يتوقف الأمر-يقول المؤلِّف-عند أسماء الأيام فحسْب، بل يتعدَّاها إلى أسماء الشهور. والوحيد الذي استطاع الانفلات، هو: النظام العدديّ. لقد تغلغلت العربية لتصل إلى جوانبَ نفسية عميقة، فالرُّقَى والعزائم-في معظمها-تبدأ وتنتهي بالصلاة على النبيّ. كما تتخلَّل الرُّقيةَ بعضُ المفردات العربية الأصل. عِلمًا أنّ الرقى والعزائم نمط من الممارسات يدور عادة في أوساط اجتماعية سطحيّة التديُّن، وقليلة التعبُّد. وبالمقابل، تجدها شديدة التعلُّق بالتقاليد والإيمان بالثقافات القديمة.

فما بال الكاهن-يقول المؤلِّف-يستفتح رُقيتَه أو عزيمته ب (سالالِ محمد والالِ محمد)، أي: صل على محمد وعلى آل محمد! إنّ (واو) العطف هنا يأتي ليشير إلى عروبتها. فحرف العطف باللغة الفلانية ليس واوًا، وإنما هو همزة ممالة مثل (إ) بوضع نقطة تحت الهمزة.

وتحت عنوان: مراكز تعليم القرآن الكريم، يقول المؤلِّف إنّ من أهم مراكز تعليم القرآن في الغرب الإفريقي/ حوض نهر (السنغال) و (النيجر): ماسينا، ودوري، ونيورو، وجومبوقو، وفوتا طورو. ويضيف: أشرنا سابقا إلى أنّ "فوتا طورو" منطقة مقسمة-بعد الاستقلال-بين السنغال وموريتانيا، غير أننا عندما نتحدث عن "فوتا"، نتحدث عن إقليم متكامل ولا نقصد جزءا معيَّنًا من أحد قسميه. إنّ "فوتا طورو" إقليم متاخم جغرافيا للأعراب في أقصى الغرب من شمال إفريقية، وكذلك المراكز السابقة الذكر عدا منطقة "دوري" الواقعة في بوركينا فاسو. إنّ مجاورة هذه المناطق لشمال إفريقية التي أسلمت-يقول المؤلِّف-وتعرَّب مُناخُها الاجتماعي فصار اللسانُ العربي لسانَها-على الرُّغم من وجود لهجات بربرية-فغدت صحراءُ الشمال الغربي عربيةً كصحراء نجد وتهامة والربع الخالي.. قد ساعدت هذه المناطق وسهلت لها كسبَ كثير من خاصيتها اللغوية، وحازت نصيبا وافرا من القرآن وعلومه، وتغذت مراكزُها العلمية من المراكز العلمية الموجودة في الشمال، وحصل احتكاك ثقافي مباشر بين العناصر، واستفاد الجَنوبيون من الشماليين المتعربين لسانًا وثقافةً أيما استفادة، وخصوصا في مجال القرآن الكريم.

وكان من العادة-بادئ الأمر-أن يرحل الجنوبيون إلى الحوض الشرقي في موريتانيا بغية الحصول على الإجازات، أو لتقويم ألسنتهم نُطقًا، بيد أنّ الأفارقة اليوم في كل من "ماسينا، ونيورو، وفوتا طورو، وجومبوقو" لم يعودوا يرحلون إلى الشمال للغايتيْن المذكورتيْن لبلوغهم مستوًى يسمح لهم بالاكتفاء الذاتي.

وفي معرض حديث المؤلِّف عن "مرحلة تعليم الإسلاميات واللغة العربية"، يقول: تُعتبَر هذه المرحلة امتدادًا طبيعيًّا للمرحلة السابقة (يقصد مرحلة "سَنْطَا"، وهو الاسم الذي يُطلَق خاصة على تلاميذ القرآن الكريم، ولكنه في مفهومه التربوي يشمل كل تلميذ بالغ أو الكبار من طلبة العلم)، فالقرآن هو إمام سائر الكتب الإسلامية وعلومُه سيدة العلوم.

في حوض نهر "السنغال" يُسمّى مركز التعليم بالفلانية "دُوطَلْ"، وجمعه "دوط" بطاء ممالة. ويسميه الموريتانيون "محضرة"، وقد يقولون "محظرة" بالظاء. ويسمى في جمهورية السودان "خلوة". ويسمى في بعض الدول الشرقية "حوزة".

وطبقا لتقاليد المحاضر في الغرب الإفريقي، فإنهم يقسمون مادة اللغة العربية إلى أربعة أقسام: اللغة، النحو، البلاغة، الصرف والعروض.

من الكتب المقررة المعتمدة في محاضر الغرب الإفريقي: متن الآجرومية، وملحة الإعراب. ومنها أيضا: مقدمة الكوكي، لمؤلِّف سينغالي. غير أنّ أهمها جميعا: ألفية ابن مالك. ومن التلاميذ من يضيف إلى الألفية: كتاب الاحمرار المشهور ب "ولد بونه"، لمؤلفهالموريتاني: المختار ولد بونه.

وحول التبادل الثقافي بين الشمال والجنوب، يقول المؤلِّف: من هؤلاء التلاميذ، من تعلَّم وأجاد فرجع إلى أهله لينشر العِلم في وسطه ومحيطه، ومنهم من تضلَّع في العلم وتزوج هناك ولم يعد. ومن هؤلاء مَن عُرِفوا باسم "هيل ملل"، أي: أهل "مَلَلْ"، ف "مَلَلْ" هذا-استنادًا إلى أبي بكر خالد-كان من ضمن الرعيل الأول من الذين قصدوا الشمال البعيد، سعيًا وراء تجويد القرآن الكريم وتقويم ألسنتهم على أيدي عرب الشمال، وتحققت له بُغيتُه إلى درجة التفوق، فتزوج ببنت شيخه، واتخذ مَهْجَرَه وطنًا، ومع الزمن تكاثر عليه من الجنوب بنو جلدته للغاية نفسِها التي كانت أتت به إلى هناك، ثم تأسّى كثير منهم به فلم يرجعوا إلى الجنوب، فآثروا الحياة الجافة في الشمال القاحل، ومع مر العصور وتعاقب الأيام، تكونت منهم قبيلة عُرِفت باسم "هيل ملل". والحق أنّ هذا أروع مَثَلٍ في مجال التبادل الثقافي بين الأمم.

وبعد هذه المعلومات (المأخوذة من المرجع المشار إليه)، المتعلقة بوصول الإسلام واللغة العربية إلى حوض نهر "السنغال"، ومعالم الثقافة العربية الإسلامية ومسار حياتها في الإقليم المذكور، وذكر دور المدارس التقليدية (المحاضر) وشيوخها في نشر هذه الثقافة، يمكننا أن نقول إنّ تأثير اللسان العربي والثقافة الإسلامية في هذا الجزء من إفريقيا كان واضحا جليا. ومِن ثَمَّ فإنّ تأثير اللسان العربي في اللغات الإفريقية في هذه المنطقة أمر حتمي ومنطقي، لحاجة المسلمين لهذا اللسان العربي المبين الذي اختاره الله تبارك وتعالى لكتابه العزيز حتى يتمكنوا من فهم القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وكل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية السمحة.

وفي كتاب بعنوان "موريتانيا بين الانتماء العربي والتوجه الإفريقي"، للدكتور/ محمد سعيد بن أحمدو (من منشورات مركز دراسات الوحدة العربية)، تحت عنوان "العلاقات الفنية الموريتاني الإفريقية/ العلاقات الثقافية"، يقول المؤلف: إذا كنا قد أشرنا آنفًا إلى الدور الذي قام به الموريتانيون وأسلافهم في نشر الإسلام في المنطقة، ممّا أدى إلى خلق فضاء ثقافي أساسه الإسلام ولغته الفصحى، ويزيد من تعزيزه انتشار الطرق الصوفية وحركة مجموعاتها عبر فضاء ثقافي مفتوح، فالطرق الصوفية ذاتها منتشرة في عموم المنطقة، والمذهب الفقهي المالكي هو المذهب نفسه الشائع في أرجائها، فإنّ ذلك الدور هو الذي تستند إليه العلاقات الثقافية الموريتانية الإفريقية المعاصرة. وذلك الفضاء هو الذي تتحرك من خلاله ويشكل إطارها العام. فما زال التبادل الثقافي قائما في شكل العديد من الدارسين الأفارقة في المحاضرالموريتانية ذات النظام التقليدي في التدريس، حيث يتلقون من خلالها العلوم الشرعية ويتضلعون من اللغة العربية، كما أنّ الكثير من المشايخ والعلماء الموريتانيين ينتشرون في أصقاع إفريقية مختلفة لتعليم مبادئ الإسلام.

ولحسن الحظ، فقد حصلتُ في أثناء إعدادي لهذه الورقة على كتاب نافع مفيد بعنوان: صوتيات لغات الشعوب الإسلامية في إفريقيا (الهوسا والفولاني والسواحيلي)، أعده الدكتور/ الأمين أبو منقة محمد، وهو من منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (ضمن سلسلة صوتيات اللغات  المكتوبة بالحرف القرآني). وهي مناسبة للتنويه بجهود هذه المنظمة في خدمة الإسلام والمسلمين، ونشر اللسان العربي المبين.

جاء في مقدمة الكتاب: لم تعرف كثير من لغات الشعوب الإسلامية في إفريقيا وجنوب شرق آسيا أدبًا مكتوبًا إلّا بعد اتصالها بالثقافة العربية الإسلامية. وتعتبر اللغات السواحيلية والهوسية والفولانية أهم هذه اللغات في إفريقيا من حيث عدد المتحدثين بكل منها وسعة انتشارها الجغرافي وعمق صلتها بالتاريخ الإسلامي والثقافة العربية. وقد أفادت هذه اللغات كثيرًا من اتصالها المبكر باللغة العربية، حيث غذتها العربية بالألفاظ والمفاهيم وأمدتها بتقنيات التأليف والإبداع وبحرف التدوين.

ونفتح قوسا هنا، لنشير إلى أهمية الاطلاع على ما ورد في هذا الكتاب حول: "رموز الأصوات الصامتة وصفاتها"، والمقارنة بين الرمز الدولي ورمز "الإيسيسكو". ص. 12-13.

ونقرأ في الفصل الأول من الكتاب، تحت عنوان: "الهوسيون ولغتهم"، تُصنَّف اللغات الهوسية في أسرة اللغات الإفريقية الآسيوية. ولها صلة رحم في هذا الإطار مع لغات مثل العربية والصومالية والبجاوية والبربرية. وهناك عدة مظاهر صوتية وصرفية ونحوية مشتركة تؤكد تلك الصلة، منها احتواء الهوسية على الأصوات الدفعية (يُنظَر شرحها في الفصلين الثاني والثالث من الكتاب) التي نجدها أيضًا في الأمهرية والصومالية، ونجد بعض ملامحها في توصيف صوت الطاء باعتباره صوتًا مجهورًا لدى كل من ابن جني وسيبويه. ولعل أهم ما يميز لغات هذه الأسرة وجود ظاهرة التذكير والتأنيث في جميعها، على أنّ التشابه بين اللغة العربية والهوسية في هذه الظاهرة وفي الأنواع المختلفة لصيغ الجموع أقوى ممّا هو عليه بين اللغة العربية وكثير من أفراد هذه الأسرة. إلّا أنّ الهوسا تنفرد بالأصوات المشفَّهة labialized مثل kw والمغوَّرة palatalized مثل ky (يُنظَر شرحها في الفصل الثالث من الكتاب) التي تخلو منها الغالبية العظمى من أعضاء هذه الأسرة اللغوية.

وتحت عنوان: "الفولانيون ولغتهم"، نقرأ: يشكل الفولانيون اليوم عناصر معتبرة من السكان في كل من: السنغال، وغامبيا، وموريتانيا، وغينيا، وسيراليون، ومالي، وبوركينا فاسو، وبنين، والنيجر، ونيجيريا، والكمرون، وتشاد، وفي أجزاء متفرقة من جمهورية السودان حتى الحدود الإثيوبية.

تتميز الفولانية باحتوائها على سلسلة من الأصوات الأنفية المركبة prenasalized (يُنظَر شرحها في الفصل الثالث من الكتاب)، إلى جانب الصوتين الشفطيين اللذين تشترك فيهما مع الهوسا.

وقد أشار المؤلِّف إلى أنّ سعة المساحة الجغرافية التي تنتشر فيها اللغة الفولانية، أدت إلى تعدد لهجاتها (ست لهجات رئيسة) لدرجة أنّ فولانيي السودان قد لا يستطيعون التفاهم مع فولانيي السنغال.

وتحت عنوان: "السواحيليون ولغتهم"، نقرأ: تُعَدّ السواحيلية أهمَّ اللغات التداولية في إقليم شرق إفريقيا من جنوب الصومال حتى مشارف جنوب إفريقيا. إلّا أنّ لها حضورًا معتبَرًا في كل من: زامبيا، ورواندا، وبوروندي، وزائير، وموزمبيق، وملاوي، وجزر القَمَر، والصومال، وأقاصي جنوب السودان.

وحول مصدر اللغة السواحيلية، أشار المؤلِّف إلى أنّ هناك عدة نظريات بهذا الخصوص. يرى بعض الباحثين أنّ السواحيلية نابعة من اللغة العربية المبسطة التي كانت مستخدمة للتواصل بين الرحالة والتجار العرب من جهة، وسكان الساحل الشرقي لإفريقيا من جهة أخرى. ويرى بعضهم أنها مزيج من اللغات ذات الأصل الإفريقي البانتوي، تطورت وأصبحت لغة تواصل مشتركة يَسَّرَت الاتصال بين العرب والأفارقة في المدن الواقعة على الساحل الشرقي لإفريقيا. ويرى آخرون أنها لغة يرجع تطورها إلى عهد العبودية وتجارة الرقيق وذلك بعامل المصاهرة بين الرقيق (وهم من أصول مختلفة ومتباينة) وبين العرب في زنجبار. ويرى بعضهم أنها لغة إفريقية بانتوية كانت تستخدم في منخفضات وادي السباكي بكينيا، نقلها الناطقون بها إلى مناطق أخرى بالساحل الشرقي عن طريق التنقل والمعاملة مع التجار العرب، ثم تعرضت لمؤثرات ثقافية عربية مكثفة على مر العصور بسبب النشاط التجاري والديني (الإسلام) والسياسي إلى أن تبلورت في هيئتها الحالية. وهذا هو الرأي الراجح، يقول المؤلِّف.

وتحت عنوان: "أثر الإسلام واللغة العربية في اللغات الثلاث قيد الدراسة"، أشار المؤلِّف إلى أنّ الاتصال بين اللغة العربية والثقافة الإسلامية من جانب، واللغة المحلية السائدة في شرق إفريقيا من جانب آخر، هو من نوع الاتصال اللغوي المباشر بين متحدثي اللغات المعنية أنفسهم. إلّا أنّ عدد المتحدثين بالعربية هناك لم يكن بالقدر الذي يمكنهم من جعل لغتهم تتغلب على اللغات المحلية، كما حدث في سودان وادي النيل مَثَلًا،ولكن تأثيرها في اللغة المحلية السائدة- التي عُرِفت في وقت مّا ب"السواحيلية"-وصل حدًّا لا مَثيل له، لدرجة أنّ أهلها في أماكن- مثل زنجبار- يتكلمونها "بالعربية"، الأمر الذي جعل كثيرا من المهتمين بها يعتقدون أنها خليط من اللغة البانتوية والعربية.

وقد اقترضت اللغات الإفريقية الثلاث كَمًّا هائلًا من المفردات والعبارات العربية واستوعبتها بحيث شكلت هذه المفردات والعبارات نسبة كبيرة من الذخيرة اللغوية لهذه اللغات. وقد تشابهت أيضًا الحقول الدلالية للألفاظ العربية في اللغات الثلاث، ويقف الحقل الدلالي المتصل بالعقيدة الإسلامية على رأس هذه الحقول الدلالية. أما الحقول الدلالية الأخرى، فتضم التجارة، ونظام الحكم، والأدوات المنزلية، والملبوسات، والنحو، والحساب، وعلم الفلك، والترقيم، والتوقيت، والمقاييس، والموازين، والمنتجات العضوية، والمحاصيل النباتية، والقراءة، والكتابة، والمعادن، والأحجار الكريمة، والمعمار، ومئات الألفاظ التي تعبِّر عن الألفاظ المجردة.

واتفقت اللغات الثلاث في أنّ آدابها المكتوبة قد تطورت متفرعة من الأدب العربي الإسلامي ومنطلقة في هذا الصدد من المنظومات الدينية. وقد استفادت كثيرًا من التقنيات الأدبية العربية من أوزان شعرية وإبداعات بلاغية، مستخدمة الحرف العربي أداةً للتدوين.

وبعد الإشارة إلى جوانبَ مهمةٍ ممّا ورد في الفصل الأول من هذه الدراسة (الصادرة في كتاب، ضمن منشورات إيسيسكو)، فإنني أقترح على المهتمين بالموضوعأن يطلعوا على مضمون الفصل الثاني من الكتاب "أساسيات في علم الأصوات"، والفصل الثالث "الخصائص الصوتية للغات الشعوب الإسلامية/ الهوسا والفولاني والسواحيلي"،  لتكتمل لديهم الصورة.

وفي إطار حديثنا عن تأثير اللسان العربي في اللغات الإفريقية-في المستوى الصوتي، من بين مستويات أخرى-فقد ارتأيتُ أن أذكر في هذه المقاربة ببعض خصائص أصوات الحروف العربية، من خلال ما كتبه الدكتور/ غازي مختار طليمات، في بحث له منشور في مجلة "الرافد"، عدد ديسمبر 2013م، بعنوان: "أصوات الحروف العربية/ كمال وجمال".

يقول الكاتب، إنّ من ينتجع كتب القدماء من فقهاء العربية للظفر بحدٍّ جامع مانع يعرِّف به اللغة عامة لا العربية خاصة، فلن يجد تعريفا أجمع وأمنع، ولا أقصر وأدل، ممّا عرفها به أبو الفتح عثمان بن جني، إذ قال في كتابه "الخصائص 1/33": "اللغة أصوات يعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم". أجود ما في هذا التعريف، قول ابن جني "عن أغراضهم" لا عن أفكارهم، "فالأغراض" أوفى من الأفكار وأشفى، لأنها تجمع خلجات القلوب إلى ثمرات العقول، فتحيط بالتوهج النفسي إحاطتها بالنشاط الذهني، وترضي الأدباء الذين يخلعون على اللغة أثواب الإمتاع والإبداع، كما ترضي العلماء الذين يجعلون اللغة الحامل الناقل لأفكارهم من عقل إلى عقل، ومن عصر إلى عصر، بلا عنت ولا قصور.

ولمّا كانت اللغة أصواتا "أي حروفًا"، فقد درس ابن جني أصوات العربية حرفًا حرفًا، دراسة مفصلة في كتابه "سر صناعة الإعراب". ثم شفع ابن سينا هذه الدراسة بكتابه "أسباب حدوث الحروف". وتلقى الدكتور، إبراهيم أنيس البحوث الصوتية القديمة، وأضفى عليها ثوبًا عصريًّا في كتابه "الأصوات اللغوية". وخص صوت "الضاد" بما يليق به من توقير جعله يتصدر الحروف الأخرى، بخلع اسمه على لغة العرب.

ومِن حقوق العربية علينا-يقول الكاتب-أن نخص هذا الصوت الضخم بخاطرة خاصة، تعزف لحنه، وتلاحق صداه عبر التاريخ. أمّا هذه الخاطرة فواجبها الكلام على الأصوات العربية كلها، للوقوف على ما فيها من كمال وجمال. أمّا الكمال ففحواه أنّ مخارج الأصوات العربية ممتدة من أقصى الحلق إلى الشفتين، وهو امتداد يريح المتكلم، ويوزع الأصوات توزيعًا عادلًا على جهاز النطق.

إنّ هذا التوزيع الفطريّ أغنى لغة العرب بأصوات حرمت منها أخواتها السامية.ففي العربية تسعة وعشرون صوتًا- على اعتبار الهمزة صوتًا متميزًا عن الألف-ثلاثة منها هوائية: (ا، و، ي) والستة والعشرون سواكن، وفي العبرية والسريانية والبابلية البائدة اثنان وعشرون. فالبابلية، لم تعرف أصوات (ط، ظ، ض) وأصوات الحلق (ح، ع، غ..). والسريانية، زهدت في بعض الأصوات كالضاد والعين. والعبرية خلت من (ث، ذ، ض، ظ، غ) وتطور فيها صوت (ص) إلى (س)، وزحفت أصوات أخرى من مخارجها إلى مخارجَ تجاورها، فالراء قاربت الغين، والقاف قاربت الكاف.

 

ولما كنا نتحدث في هذه الورقة عن الخصائص اللغوية (الصوتية والتركيبية والمعجمية) ومدى تأثير اللغة العربية في اللغات الإفريقية،  فلعل من المهم أن نذكِّر ببعض خصائص اللغة العربية.

في بحث منشور في مجلة "الرافد"-عدد مارس 2014م-بعنوان "اللغة العربية/ تلك المعاني العابرة للقارات"، تقول/ هند عبد الحليم محفوظ: إنّ اللغة العربية ليست إحدى أرقى لغات العالم فحسْب، بل هي قطعًا أرقاها على الإطلاق...تتميز اللغة العربية في تركيب حروفها وكلماتها وجملها، وفي كل ما يتعلق بالبناء العام للكلمة أو الجملة، مع مرونة في التصريف والاشتقاق، وعمق في معرفة خصائص الأصوات عند تأليفها بعضها مع بعض في ثنايا الكلمات-كالإدغام والإبدال والإمالة-حيث توجد أسس عقلية ومنطقية تقوم عليها من حيث صورها وموقعها في الكلام، وقواعد عامة تربط بين اللفظ والمعنى. تفي حروف اللغة العربية بالمخارج الصوتية، إعرابها بسيط، كلماتها سهلة النطق سَلِسَة.

ولو كانت العربية لغة صعبة على النحو الذي يزعمونه- تقول الكاتبة-لما انتشرت هذا الانتشار الواسع في فترة وجيزة نسبيًّا، ولَما تأثر بها كثير من الشعوب التي احتكت بالعرب.

ومع هذه العالمية التي حققتها اللغة العربية، وما حققته علومها وفنونها من مستوًى رفيعٍ، ومن انتشار كبير، فإنّ هذا لا يعني أنها كانت منغلقة على نفسها. لقد تفاعلت مع اللغات والآداب الأخرى، ولا سيما اللغات الإسلامية كالفارسية والأردية والتركية التي دخل أبناؤها في الإسلام، وتعربوا فأصبحوا عربا بمقياس الإسلام (إذ العروبة القرآنية هي عروبة الفكر واللسان والعقل والوجدان) وأصبحت أعداد هؤلاء المتعربين في مجالات الإبداع أكثر من أعداد العرب.

 ومع أنّ طبيعة الإسلام والحضارة الإسلامية تقتضي ألّا يُرغم أحد على ترك دينه أو لغته، فقد اختار هؤلاء العربية لاعتبارات تتصل بالإسلام من جانب، وباللغة العربية ذات الغزارة والقوة والسهولة في الوصول إلى التعبيرات الدقيقة، من جانب آخر.

وتحت عنوان: "هندسة العربية"، يقول الدكتور/ عمر عبد العزيز، رئيس تحرير مجلة "الرافد 2"، في افتتاحية عدد مارس 2017م: اللغة العربية، كغيرها من لغات البشرية، تختزل في ذاتها كامل الهندسة الصوتية الصوَرية التي تنبجس من تضاعيفِ بيانها وبديعها. والمقصود بالهندسة "الصوتبصرية" للغة، تلك الدوالّ الموسيقية البصرية الناجمة من متوالياتها الصوتية الصادرة عن قابليات الإنسان الفيزيائية التشريحية، حيث تتنامى فضاءات التعبير الصوتي لتصل إلى الكتابة بوصفها تُرجمانًا مؤكِّدًا لتلك الأصوات. ومن هنا تنشأ الخوارزميات اللغوية الرياضية الجبرية ذات الصلة بثنائية الساكن والمتحرك، ممّا يمكِّن من استقراء آفاقها الواسعة في علوم اللسان.

ولعل أبرز خاصية-يقول الكاتب-تمنح العربية قدرة استثنائية على الإبحار في عوالم اللسانيات، هي كونها لغة جذر ثلاثي، تسمح لمن يتصفَّحُ تحولاتِها النابعةَ من ذلك الجذر بإمكانية رصد تلك التحولات في المعاني والدلالات، حتى إنّ/ بل جُلّ المصادر الجذرية تكتسي معانيَ مُتعارضة على الرُّغم من صدورها عن جذر واحد. مِن ذلك أنّ العَذْب والعَذاب نابعان من جذر واحد، و"الرغبة في" و"الرغبة عن" نابعتان من جذر واحد وإنْ تباينت المعاني.

لقد سمحت هذه الخاصية للعربية بتلك المناورات اللفظية الدلالية على هامش المترادفات وتنوُّعها الكبير، فجاءت الصفات دقيقة، والأوصاف لمَّاحة، والقيم المفاهيمية متعددة.

يُضاف إلى ذلك كون العربية لغة "إضمار" من حيث إنّ المكتوب فيها أقل بكثير من المنطوق صوتيًّا، حيث تصل النسبة بين المستويين إلى حرف مكتوب واحد مقابل تسعة أصوات غير مكتوبة خارج النص القرآني.

ولعل من المناسب في هذا المجال، أن نشير أيضًا-باقتضاب- إلى دور الخط العربي في تقبل العالم للغة العربية.

يقول صلاح عبد الستار محمد الشهاوي، في بحث له منشور في مجلة "الرافد 2"-عدد يناير 2017م-بعنوان "من جماليات الخط العربي": لا يشكل الخط العربي أداة لتجسيد اللغة الحاملة للخصائص الحضارية والتاريخية والنفسية فقط، بل يحمل هذا الخط أيضًا أقدس رسالة اختص بها العرب إلى جميع بني البشر في الزمان والمكان، وهي آيات القرآن الكريم. وبهذا المعنى، أضحى الخط العربي يتمتع بميزة مقدسة لم تتوافر لغيره من الخطوط لكل اللغات المتعارف عليها في العالم. وبهذا المعنى أيضًا، اجتهد العرب ليمنحوا الحروف العربية المكانة الأعلى والمنزلة الأرفع.  فبعد أن تشرب العرب الإسلام في قلوبهم وأفئدتهم، خرجوا ينشرون النور الرباني في جنبات الأرض ويفتحون البلاد والأمصار ويحملون اللغة العربية في كل مكان وطئته أقدامهم، وهي اللغة التي استطاعت- لخصوبتها وروعتها وبلاغتها-أن تمحوَ كثيرًا من اللغات، وتحل محلها، وتصبح لغة الفتوحات والبلدان الإسلامية الجديدة. ولذلك، أصبح الخط العربي هو المستخدَم في هذه الأصقاع.

لقد حددت اللغة العربية وخَطُّها-يقول الكاتب-أسلوبَ التفكير لجميع الشعوب المسلمة إلى درجة كبيرة، ورسَمَا المنحنى الفكري العربي إلى حد كبير، وتغلغلا في نفس المسلم حتى انعكست على فنونه الإبداعية، فالفن التشكيلي في الإسلام ماهو إلّا انعكاس للكلمة القرآنية، ولا شيء يتطابق مع الحس الجمالي الإبداعي للمسلم مثل الكتابة العربية.

نشكر للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-إيسيسكو- جهودها الخيّرة في مجال خدمة الإسلام والمسلمين ونشر لغة القرآن الكريم، ونرجو أن تستمر في مشروعاتهاوبرامجها المتعلقة-بصفة خاصة-بتنميط الحرف العربي وتأهيله لأن يكون الحرف المستعمَل في المجتمعات الإفريقية لكتابة لغاتها.

والله الموفِّق.

 

المراجع:

1-عبد العزيز بن عثمان التويجري. حاضر اللغة العربية. منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-إيسيسكو. 1434ه/ 2013م.

2-عبد العزيز بن عثمان التويجري. اللغة العربية والعولمة. منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-إيسيسكو. 1429ه/ 2008م.

3-مصطفى يسري عبد الغني. بحث بعنوان: الثقافة العالمية/ الثقافة الإسلامية في المشهد. مجلة "الرافد" الإماراتية. عدد يونيو 2014م.

4-عمَر محمد صالح الفلّاني عمَر بَا. الثقافة العربية الإسلامية في غرب إفريقيا. دار المنهاج للنشر والتوزيع. الطبعة الثالثة. 1436ه/ 2015م.

5-محمد سعيد بن أحمد. موريتانيا بين الانتماء العربي والتوجه الإفريقي. منشورات مركز دراسات الوحدة العربية. الطبعة الأولى. بيروت. 2003م.

6-الأمين أبو منقة محمد. صوتيات لغات الشعوب الإسلامية في إفريقيا (الهوسا والفولاني والسواحيلي). منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-إيسيسكو. 1420ه/ 1999م.

7-غازي مختار طليمات. بحث بعنوان: أصوات الحروف العربية/ كمال وجمال. مجلة "الرافد". عدد ديسمبر 2013م.

8-هند عبد الحليم محفوظ. بحث بعنوان: اللغة العربية/ تلك المعاني العابرة للقارات. مجلة "الرافد". عدد مارس 2014م.

9-عمر عبد العزيز. هندسة العربية. افتتاحية عدد مارس 2017م من مجلة "الرافد".

10-صلاح عبد الستار محمد الشهاوي. بحث بعنوان: من جماليات الخط العربي. مجلة "الرافد 2". عدد يناير 2017م.

(أُلقي البحث في "ندوة تأثير اللغة العربية في اللغات الإفريقية من منظور لسانيّ" التي نظمتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-إيسيسكو، ضمن فعاليات المؤتمر الدولي التاسع للسانيات الإفريقية حول موضوع: "اللغات الإفريقية في عصر العولمة: من الوصف إلى سياسات الدولة". عُقِد المؤتمر أيام: 25-26-27-28 أغسطس 2018م، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط/ المملكة المغربية).