العلامة اباه ولد عبد الله
بقلم: عبد الوهاب ولد الشيخ الحطاب
إن غبتمُ لم تغيبوا عن ضمائرنا وإن حضرتم حملناكم على الحدق
ركّب الله في النفس البشرية التوق إلى ما تستنشق منه سعادتها، وتستجم به أنفاسها. والناس أجناس، وعواطفهم متباينة، فما يحبه فلان يراه الآخر لظى تمد أشرعتها لتلتهب أحلامه، فترديه في غياهب السجون النفسية، وقد يكون هذا بعينه باعث أمل، ومصدر اغتباط عند شخص آخر، فسبحان مصور الخلائق، ومسير الأفلاك على صراط قويم يرضى فيه كل بما قسم له.
أما أنا فنفسي :
مشتاقة إلى رؤية تاج العلماء. وسمت الصالحين، وإمام الزاهدين، وملاذ الحكماء، ونادرة الزمان، وغيث الأدباء، ومأوى الضعفاء، مروّي صحاح العلوم بأدب جم، ونظر ثاقب، صاحب التواليف العلية، والأخلاق السنية، شيخنا العلامة ابّاه ولد عبد الله ،محيي المحاظر بعد ما أشرفت معالمها على الاندراس، وأصبح أهلها يتنافسون في جمع المال والأحباس، فأعاد لها ألقها وأريجها، وورد إليها نضارتها وبهجتها.
لقد سعى شيخنا وكده، وبذل وقته في تعليم المسلمين أمور دينهم، حتى ملأ أرجاء المعمورة عرْف ذكره، وشاع في الآفاق فضله، فترى طلاب العلم فرادى وجماعات من كل أصقاع الدنيا، يهرعون إلى الارتواء من معينه الزلال، الذي لا تزيده الدلاء إلا جماما وغزارة، فكلما بدأ الطالب يخطو في مهمات العلوم، مشققا نصوصها ظانا أنه بز أقرانه في المعرفة فلما أبصر شيخنا يشرح أصولها، ويذلل صعابها تصاغرت نفس الطالب موقنا أن علم شيخنا منحة من الله لا يدرك شأوها ولا يدانيها جواد المصلي، ولا المجلّي.
كل من زاره يدرك يقينا أن للعلم رجالا خلقوا له، تفيؤوا ظلاله الوارفة، معرضين عن الدنيا ، غير آبهين بملذاتها وطلائها الماكر.
لأنكَ من يكسُو الحروفَ جَمالَها .... تنالُ القَوافِي إنْ مُدحتَ كَمالَها
ويفرحُ بالمدحِ الأنامُ جِبِلَّةً .... فللهِ نَفسٌ قدْ نسفتَ جِبالَها
ولم تُلهكَ الدنيا وخاصمتَ لهْوَها... فمالكَ يا فخر الزمان؟!.. ومالَها؟!
ومن رامَ باسمٍ جَمْع كُلِّ فضيلةٍ.... عنَى ابَّاهَ فليَصْدع إذا هُوَ قالَها
نفاخِر تاريخَ الجُدود بِمثله .... ونُبصر من شنقيطَ فِيه مثالَها
فللهِ كمْ علياءَ قالتْ أنا لَه ..... ونازلةٍ صمَّاءَ قالَ أنَا لَها
تعلّمت من شيخنا التربية السمحة، والتواضع الجم، والخلق الحسن، ومحبة العلم وأهله.
في حلقاته العلمية ترد الأسئلة من جميع الطلبة الصغير والكبير، والقريب والغريب فترى البشر يعلو وجهه، إجابات شافية تتخللها ممازحة تثلج الصدور، وتنفس كرب المصدور، فترى الطلبة والحاضرين فرحين بما آتاهم الله من فضله. بين ظهرانهم عالم عامل يأخذ بأيديهم إلى الطريق الأقوم الذي لا عوج فيه ولا أمتا. طريق ورثه من آبائه وأجداده رحمات الله عليهم. سبيل قال فيه البوني (العلامة المختار ولد بونا) نور الله روضته" ذات يوم:
ونحن ركب من الأشراف منتظم ..... أجل ذاالعصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة .... بها نبين دين الله تبيانا
ذكريات كثيرة مفعمة بالحب والشوق إلى مجلس شيخنا.
فمن سيرة شيخنا حفظه الله أن يبدأ حلقة العلم اليومية بسيرة النبي المصطفى، والسراج المجتبى محمد صلى الله عليه وسلم. فتلحظ أدب شيخنا مع النبي، وخلاص محبته له، يتحدث بصوت خافت كالنسيم العليل فلا يرفع صوته احتراما لجناب النبوة، مستحضرا قول الله تعالى "يأيها الذين ءامنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي)
يتدفق لسانه سلسبيلا، فيخبر عن الرسول وغزواته وأيامه، بكلام صحيح السند، عالي المتن. ذاكرا ما خص به من المعجزات الباهرة، التي حيرت العقول.
ولد الهدى فالكائنات ضياء ... وفم الزمان تبسم وثناء
ما زال في أذني تعليق شيخنا على الطالب المغترب الذي كان يدرس عليه ديوان الستة الشعراء، كانت حلقة اليوم عن قول امرئ القيس
لعمرك ما قلبي إلى أهله بحُرْ ولا مقصر يوما فيأتيني بقر
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قويم بمستمر
أغاد الصبوح عند هند وفرتنى وليدا وهل أفنى شبابي غير هر
إلى آخر القصيدة. وفيها أنواع من الخمر تنسب إلى بعض الأماكن المعروفة بالخمر زمن الجاهلية ، كما العطر في أغلبه ينسب للهند. بدأ شيخنا يشرح القصيدة، مبينا غريبها، وأماكن أحداثها.
غير أن الطالب أخذته الحميّا فأظهر اشمئزازه من نسبة الخمر إلى بلده. رد شيخنا بهدوء وحكمة قائلا : نحن في هذه الصحراء الجرداء كما ترى لا تنبت كلأ أحرى عنبا، لم تقع أعيننا على الخمر و لا نعرف عنها شيئا إلا ما يرد في الأشعار، وإنا لا ندرس هذا الشعر لذاته، وإنما ليتعلم منه معاني كلام العرب الموصلة إلى فهم معاني كتاب الله العزيز. عندها سكن جأش الطالب، ورجع له رشده، وعلم يقينا أن شيخنا لا يضمر في نفسه سوءا لبلده ولا غيره.
أمريد مثل محمد في عصرنا
لا تبلنا بطلاب من لا يلحق
وفي بصري حركاته، مسندا ظهره إلى أسطوانة المسجد، وهو ينشد أشعار عمر بن ربيعة وقت شرحه لنسب ربيعة من عمود النسب للبدوي عليه شآبيب الغفران، إذ شنّف الأسماع بإنشاد أشعار كثيرة منها قصيدة عمر المشهورة :
أَمِن آلِ نُعمٍ أَنتَ غادٍ فَمُبكِرُ... غَداةَ غَدٍ أَم رائِحٌ فَمُهَجِّرُ
لِحاجَةِ نَفسٍ لَم تَقُل في جَوابِها... فَتُبلِغَ عُذراً وَالمَقالَةُ تُعذِرُ
تَهيمُ إِلى نُعمٍ فَلا الشَملُ جامِعٌ... وَلا الحَبلُ مَوصولٌ وَلا القَلبُ مُقصِرُ
وَلا قُربُ نُعمٍ إِن دَنَت..... وَلا نَأيُها يُسلي وَلا أَنتَ تَصبِرُ
وَأُخرى أَتَت مِن دونِ نُعمٍ وَمِثلُها... نَهى ذا النُهى لَو تَرعَوي أَو تُفَكِّرُ
إِذا زُرتُ نُعماً لَم يَزَل ذو قَرابَةٍ..... لَها كُلَّما لاقَيتُها يَتَنَمَّرُ
عَزيزٌ عَلَيهِ أَن أُلِمَّ بِبَيتِها.... يُسِرُّ لِيَ الشَحناءَ وَالبُغضُ مُظهَرُ
أَلِكني إِلَيها بِالسَلامِ فَإِنَّهُ.... يُشَهَّرُ إِلمامي بِها وَيُنَكَّرُ
بِآيَةِ ما قالَت غَداةَ لَقيتُها... بِمَدفَعِ أَكنانٍ أَهَذا المُشَهَّرُ
إلى أن أتى على جلّها، مسترسلا في أشعار الأخرى.
ثم يومئ إلى أشعار غيره من شعراء طبقته، منتقيا أشعارا جميلة، عذبة اللفظ، آسارة المتلقي، دالة على حذقه لكلام العرب نظمه ونثره، فترى الأعين محدقة كلها إلى شيخنا، معجبة بغزارة محفوظاته، حفظه الله وأمد في عمره.
أحن إلى توجيهاته لطلبة العلم في الأخذ بأسباب العلم، والتمسك بعراه الوثقى، والمنافسة في حفظه واستكناه نصوصه.
أذكر ذات يوم شكونا إليه صعوبة حفظ ألفية البيان( عقود الجمان) للسيوطي لوعورة ألفاظها، وخشونة نظمها، وكثرة زحافاتها، فرد بسكينة ووقار ، مكررا تحفظ تحفظ، ثم أردف : العلم فازت به الحفّاظ.
موقظا بذلك قلوب طلبة العلم، وحاثا الهمم لتجدّ في الطلب. فكان لسان الطلبة يلهج بقول الغابر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى .... فما انقادت الأيام إلا لصابر
وكلما عج الوسط الاجتماعي بنازلة وكثر فيها الخبط وردت على شيخنا في الحلقات فيبسط فيها بسط من حذق أقوال الفقهاء، وأحكم فنون الاستنباط، وروّى الذهن بدقائق العلم.
له ذهن يغوص ببحر علم ... فيأتي منه بالدر النظيم.
فمن تلك النوازل قضية "فوني" خدمة الاتصال الهاتف أياما معلومة بين المستفيد والشركة. فكان جواب شيخنا فيصلا، ومسك ختام، منه ظهر القول الصحيح. ورجع إليه كثير من الفقهاء بعد ما تاهوا وراء عموميات الألفاظ الفقهية.
وقد ذكر لي أحد الخاصة أن أحد القضاة العلماء كان في إحدى محاكم الجنوب ذات يوم وردت عليه نازلة حيرته فبعث بها إلى كثير من أهل العلم فأجابوا مسألته بأقوال متباينة فأسقط في يده. فما كان منه إلا أن فكّر مليا ثم همس في روعه أن لا راحة للبال ولا طمأنينة على النازلة، حتى يرد حياظ شيخنا العلامة ابّاه فهو فتاها وابن بجدتها.
عزم القاضي على السفر إلى دوحة الشرف وجامعة العلم "النباغية.
فألقت عصاها واستقر بها النوى... كما قر ّعينا بالإياب المسافر.
حط سفره في النباغية فوجد من الكرم، وحسن الضيافة ما يعجر عن وصفه اللسان. وفي نهاية المجلس عرض نازلته على شيخنا فرد عليه بلطف قائلا :سمعنا مسألتك ارجع إلينا بعد أربعة أيام، نعم :بعد أربعة" لأن المقام مقام تؤدة، فالسائل ليس إنسانا عاديا يريد جوابا مقتضبا، بل فقيه جليل يميز الأصول ويحكم الفروع، لذا كان جوابه يختلف عن جواب المستفتين الراغبين في تفسير الحكم، حلاله وحرامه.
تهلل وجه السائل وعلم أن الجواب الصحيح سطع فجره. ثم ودّع ولسان مقاله:
نزلت على آل المهلب طالبا .... بعيدا عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي معروفهم وافتقادهم.... وبرهمُ حتى حسبتهم أهلي.
لم تكن إلا دقائق وعقارب الساعة تسرع بخطاها، والملوان يتعاقبان كلمح البصر أو أسرع حتى انقضى الموعد.
أخذ القاضي عصى التسيار مرة ثانية إلى النباغية فسلم ولقي من الحفاوة والبشر ما تكل الأقلام عن رقمه. فلما همّ بالانصراف ناوله شيخنا سجلا متضمنا الفتوى.
فرح القاضى جذلا، مودعا بلدا طيبا حفر في نفسه كثيرا من الذكريات الجميلة.
لما تجاوز البساتين نظر في الورقة فظفر بفتوى حصيفة من فتى ألمعي حذق الفقه، وقواعد الاستنباط حتى انقاد له منآدها.
إذا قالَ لمْ يترُكْ مَقالاً لِقَائِلٍ ....... بمُلتَقَطاتٍ لا تَرَى بينَها فَصْلا
كفى وشفى ما في النفوسِ، فلم يدعْ... لِذي إرْبَةٍ في القوْلِ جِدَّاً وَلا هزْلا
سموتَ إلى العليا بغيرِ مشقةٍ...... فنلتَ ذراها لا دنياً، ولا وغلا
قال قارنت بين ما في السجل والأجوبة الفارطة فبان الفرق بين السليم من السقيم، والبون بين الفقيه والمتفقه. وعند النقد ينقشع الطريف من التليد، والاجتهاد من التقليد.
ولسان حاله
فساغ لي الشراب وكنت قبلا
أكاد أغص بالماء الفرات
اليوم بفضل الله ثم جهود علاّمة دهره شيخنا ابّاه تغذّي قلعة العلم، وحصنه المنيع، محظرة النبّاغية العالم أجمع بوسطية معتدلة لا شطط فيها، ولا تفريط، آخذة المنهج القويم الذي عم شذا عرفه منذ الرحلات الشناقطة الأولى التي تعرفهم العالم من خلالها :
فإن للأولين بها سبيلا .... ونحن على سبيل الأولينا
إن القلب لمشتاق إلى تلك المرابع، فمتى يازمن البؤس ستسمح لي أن أكرع في تلك الرياض، وأجول في بساتينها الخضر، وأرتوي من أنهارها العذاب، وأقطف من ثمارها اليانعة.
وأين يبلغ منها ما أصنفه ... وكيف يحوي الذي حازته إحصاء
قد مُيزت من جهات الأرض ثم بدت.... فريدة وتولّى ميزها الماء
دارت عليها نطاقا أبحر خفقت ... وَجْدا بها إذ تبدت وهي حسناء
لذاك يبسم فيه الزهر عن طرب ... والطير يشدو وللأغصان إصغاء
فيها خلعت عذاري ما به عوض ... فهي الرياض وكل الأرض صحراء.
وفي الختام الله أسأل أن يمدّ في عمر شيخنا سابحا في بحر الصحة ولا العافية، ويرعى تلك الأقمار (الأساتذة الكرام) التي تحفه، ويجعل أعمالهم الجسام، متقبلة، وأن يظل الجميع بفضله يوم تفتقر الخلائق إلى العون، ولا عون إلا من الله الملك القدير.
.