« لعل أسوأ يوم في تاريخ الإنسانية هو ما حصل في تراث بغداد من محو وإبادة». بهذه الجملة، عبَر عالم المستقبليات، المفكر المغربي الراحل المهدي المنجرة عن معنى إهانة الشعوب، من خلال قتل ذاكرتها الحضارية، في كتابه « الإهانة في عهد الميغا إمبريالية». واعتبر تدمير الذاكرة من أمكنة تاريخية، ومعالم تراثية، من بين أهم مظاهر الاستعمار الجديد، أو ما سماها بالفاشية الجديدة، أو ميغا امبريالية. ويدخل في ذلك، عملية تدمير المتاحف، ونحر الفن المقيم بها تاريخيا، وتجريد الذاكرة الجماعية من تراثها الحضاري إما بقصفه، أو إلغائه من الذاكرة، أو إحلال تراث جديد محله بقيم جديدة ولغة مختلفة، أو الدفع إلى التشكيك فيه.
تعيش الحضارة العربية اليوم بمختلف تجلياتها المعمارية، والثقافية، والتراثية، والفنية زمن المحو الذي يتم بالقصف المعلن، والذي يُغير وجه المدن، ورائحة القرى، ونكهة الأزقة، وبراءة الطفولة. المكان حين يأتي من التاريخ، يصبح علامة دالة على معنى وجود مجتمع، و تعبيرا عن طريقة في الحياة ، وشكلا في التفكير . يتحول المكان إلى متحف للذاكرة الجماعية، يُخزَن رؤيتها، ومنظورها لفن الحياة والموت. ولذا، يصبح زمن المحو زمنا مدمرا لمعنى وجود، ورؤية للعالم. وعندما كان الإنسان تواقا للخلود الرمزي، فقد بنى حضارته، ومعها بنى ذاكرة تحصنها من التلف التاريخي في حديثه عن تدمير الذاكرة الحضارية للعراق ، اعتبر» المهدي المنجرة» ذلك مسَا بذاكرة الشعب، و طريقة لإدخاله في الإحباط . كما اعتبر قتل الذاكرة طريقة لفقدان الماضي، واسترجاع الماضي مسألة صعبة، فالإنسان يصعب عليه صنع ماضيه، إنما يمكنه الاحتفاظ عليه. في مثل هذا الوضع يتحول التخييل بكل تعبيراته، وتجلياته إلى خزَان للذاكرة، ضد التلاشي ، ومُحصَنا لها ضد قهر القصف، ولعنة التدمير، وسياسة المحو.
« فندق بارون»(1) رواية الكاتب السوري عبدو خليل»، والتي تعد من الروايات التي أنجزت في إطار الدورة الثانية (2013-2014) من مشروع «محترف نجوى بركات» الذي يهتم بالكتابة الروائية، ويشجع المبدعين فيها من الوطن العربي، تطرح مسألة ذاكرة المكان، بكل تفصيلاته التاريخية، وعلاقاته الاجتماعية، وتضعه – روائيا – أمام مشهد التحولات الراهنة. فهل يثبت المكان في زمنه التاريخي؟ وهل تحظى الذاكرة الجماعية بحصانة تاريخية؟ أم يحتاج الوضع إلى ذاكرة التخييل الروائي حتى لا يفقد المجتمع ماضيه، ولا يصاب الشعب بالإحباط الوجودي؟.
تبدأ رواية» فندق بارون» من حكاية بسيطة، تتعلق بقرار الشابة البريطانية» هيلين» السفر إلى مدينة حلب بسورية، للبحث عن والدها الذي التقته والدتها « كاترين» ذات ليلة في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عندما زارت حلب ضمن وفد طلابي من جامعة لندن. ويأتي قرار البحث بعد موت « كاترين» وترك وصية لابنتها» هيلين»، التي تشرح لها فيها عن تخليها عن العودة إلى لندن مع الوفد الطلابي، والإقامة لأسبوعين إضافيين بفندق بارون. وتعرفها على والد هيلين التي كانت ثمرة حب عابر. يتعقَد سؤال البحث عن الوالد، بذكر الأم لثلاثة أسماء لأصدقاء قد يكون أحدهم والد هيلين. و طلبت من ابنتها البحث عنهم في سجلات الزوار بفندق بارون. الأول هو إسماعيل آغا وكان ملاك أراض زراعية، والثاني بكري أفندي تاجر زيت، والثالث إسحق. تبدأ الرواية مجرد حكاية بحث بدأت سنة 2011 عن أب مجهول ، في أرشيف زوار فندق بارون، لتتحوَل القصة إلى حكاية عن ذاكرة مكان، وزمن مدينة /حلب تعيش العتبة بين الماضي الذي يُشخَصه فندق بارون العتيق ، والذي يأتي مثقلا بحكايات تاريخية، وقصص اجتماعية، وأحداث سياسية، وتواريخ وطروحات فكرية من خلال حكي الأرمني العجوز كارو مدير فندق بارون، والذي يتكلف بتقديم المعلومات ل» هيلين» حول زوار الفندق، وكذا، مساعدتها في التواصل مع الذين كانت لهم علاقة بالأسماء الثلاثة، وبين حاضر مقبل على التمرد . عنصر التحول الذي تعرفه حكاية البحث عن الأب، يأتي من وضعية السرد الذي يخضع لطبيعة الشخصيات الساردة، والفضاءات ذات العلاقة بالفندق مثل «القبو» ، ولوضعية السارد الذي يسرد بضمير الغائب، ويبدو أن زمن العتبة يؤثر في طريقة سرده. لهذا، تتشابك الحكاية عند منعرجات حكايات الشخصيات، والسارد، وتصطدم بحكايات عن الأرمن ( العجوز كارو)، والأكراد (أبو الريح)، و حكاية سر القبو الذي يلازم حياة العجوز بالفندق، ثم بداية حكاية المدينة –الشبح ليلا، والتي لم تعد آمنة، ويبدو أنها مقبلة على وضع يربك ذاكرتها . ويتجلى وضع العتبة باعتباره زمن الأزمة، وفضاء الانتظار على مستوى سؤال البحث. إذ، تميز البحث لدى هيلين» عن والدها، بنوع من الغموض، واللبس، وجاء على شكل جمل غير تامة، أو معرفة ناقصة، أو مبتورة، دون أن تنجح في الوصول بسرعة إلى سر الليلة التي كانت هي بذرتها. فالعجوز « توقف عن الحديث فجأة وكأن الأحصنة التي تجره نحو سبر المجهول غاصت عميقا في وحل لزج.»(ص81). وقد يعود البتر، أو صعوبة الوصول إلى المعلومة، نتيجة ثقل الرواية بحكايات الذاكرة ،يقول العجوز لهيلين:» لا تستعجلي الأمور…نحن الأرمن قُتل منَا الآلاف وما استعجلنا بل تركنا الأمور تستوي على نار هادئة..»(ص68). كما شكلت حكايات « أبو الريح» عن الأكراد، وقصة سجنه، وعمله السري في حزب العمال الكردستاني، وحبه لـ» عبد الله أوجلان» انزياحا سرديا عن حكاية سؤال البحث عن الوالد، وتعطيلا لزمن الحاضر، ووصف جغرافية المكان. تتعدد مظاهر إكراهات تحقق السفر في السؤال الروائي، لكون المكان مشبع بحكايات الذاكرة التي تفرض منطقها، ويدعمها حضور «القبو» خزان أسرار العجوز، ولأن المدينة مقبلة على تحول « انتبهت هيلين إلى خلو الشارع من المارة والسيارات، كأن بركانا ضرب المدينة فهجرها أهلها. لا أحد . بعض الشبان يحملون عصيا وسكاكين في زوايا بعض الشوارع»(ص196). وهو الوضع الذي ساهم في عدم إمكانية تحرير الحوار بين الأنا الشرقي والآخر الغربي/هيلين من سلطة القوالب الجاهزة التي جعلت اللقاء بين هيلين والمكان العربي السوري لقاء بين مجموعة من التصورات المحققة مسبقا ضمن ما يسمى بالقوالب الجاهزة، أو المستنسخات، والتي تأتي عبارة عن صور نمطية يحملها فكر الزائر الغربي، و يمارسها فعليا وذهنيا، مثل العلاقة المثلية (هيلين/ منار)،ونظرة الاستغراب من اللون الأسود الذي ترتديه نساء حلب، والنظرة المسبقة عن الإنسان العربي ، وهي صورة أكدتها العجوز الغربية التي كانت تجلس قرب هيلين بالطائرة، « في هذه البلدان ثمة هوس غير طبيعي باللون الأبيض… كلَ ما هو أبيض يجذبهم ..خاصة إذا كان لحما»(ص49).وأيضا الخوف من الآخر الشرقي» هناك من حذرني من السفر إلى هنا»(ص58). تعيش هيلين داخل الفندق، وفي أزقة حلب بنفس منطق هذه الصور، وترافقها صور ثابتة أخرى ينتجها المكان الشرقي وهي صور عن الأرمن والأكراد والإسلام والإسلاميين. ولهذا، لم يتحقق حوار حضاري بين هيلين وباقي الشخصيات السورية. لأن اللقاء يتم بين المستنسخات. كما أن الفندق ظل فضاء مغلق الأسرار، وبقيت حلب المدينة المقبلة على الغموض، عصية عن الحركة في الحاضر. هناك إيقاع حركي يتم على مستوى المكان، بفعل سؤال البحث الذي تمارسه هيلين، و جعلها تنتقل من مكان إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى بحثا عن والدها، لكن هذه الحركية جاءت ثقيلة، تبدو سريعة على مستوى الحكاية، لكنها سرديا تتعثر في الرتابة والسفر الموغل في حكايات الذاكرة.
غير أن المثير أن المستنسخ أو الصور الثابتة ، والتي تتميز كخطابات بقدرتها على التحكم في الفعل، نظرا لشيوعها، وتداولها الاجتماعي والثقافي ، ظلت باهتة سرديا في رواية « فندق بارون» أمام قوة المكان والذاكرة، ولم تحقق نشاطا رمزيا مهما، يؤهلها لكي تُربك النشاط العام للذاكرة والمكان في حلب. ولهذا، ينتهي السرد بجعل حلب تعلن عصيانها، وتعود هيلين إلى لندن دون أن تعثر على سر والدها، بعد إطلاق سراحها من المعتقل بسبب اتهامها بالعمل كصحفية أجنبية.
لا يُعبَر التخييل عن المكان أو الزمن أو الذاكرة، إنما يحكي الشعور بالمكان والذاكرة والزمن، وهنا تبدو المفارقة بين الانتماء إلى الحضارة، والكتابة عنها، ولو عبر التخييل، والكتابة عنها خارج الإحساس بها، أي خارج الانتماء إلى ذاكرتها وزمنها. من هنا نلمس خصوصية تخييل الذاكرة عبر التخييل الإبداعي في زمن المحو الحضاري.
(1): خليل(عبدو): فندق بارون
دار الآداب، ط 1، 2014