يبدو لي أن استخدام تعبير الليل، من أكثر الاستخدامات المطروقة، والمطلوبة في الكتابة عموما، فكثير من الأغنيات العاطفية، عربيا وغربيا، والقصائد الرومانسية، تحدثت عن الليل. كثير من الروايات العظيمة كتبته، إما كأرض خصبة، تجري على سطحها أحداث جسيمة ووعرة، وإما كغطاء لا بد منه لتمرير مأساة كبرى أو فضيحة، أو رغبة ضالة.
وفي كل تلك الحالات، نجد أن الليل كان ملائما بالفعل لتبدأ الكتابة وتنتهي عنده. ولأن الليل في رأيي، هو الزمان الأفضل لاستعارته في فنون المأساة كما ذكرت، فسيظل هكذا ملهما دائما، لكل جيل من الأجيال الكتابية. ولعل أبرز الأعمال الشاهقة في الآداب، والتي ما زال الكتاب والشعراء يستوحون منها، كتاب ألف ليلة وليلة، وهنا الليل ليس عنصرا في الحكي، ولا عضوا في فريق الفنتازيا الذي سنقرأ عنه طوال تلك الصفحات الكثيرة، العامرة بالأساطير، ولكنه المسرح الذي ستجري فيه الأحداث من دون أن أي تدخل منه.
من الأعمال المعاصرة، التي أعتبرها جليلة فعلا، وكان الليل ملهما كبيرا لها، رواية ليلة لشبونة التي كتبها الألماني: إريك ماريا في منتصف القرن الماضي، مصورا فيها رعب الحرب، وذلك الظلام الخانق التي كانت تعيشه أوروبا أيام تلك الحقبة المؤسفة، في أربعينيات القرن الماضي. الحقبة التي لن يتخيل أحد كيف كانت وهو يرى أوروبا اليوم، بكل رفعتها، وتحضرها، واحترامها للإنسان، وابتعادها بقدر الإمكان عن كل ما يمكن أن يعد مدمرا له. ولذلك دائما ما أقول إن الأعمال الأدبية، خاصة التي تكتب في أزمنة البلبلة، والرعب، والدمار، هي خير ما يمكن أن يوثق، هنا لن يكون الكاتب فظا في تناوله للأحداث، مثل الرواة التاريخيين، ولكنه يهبنا الحقائق مصحوبة بالمتعة، ولذلك، يكون تناوله الشخصي، هو الأكثر انتشارا بين الناس.
ليلة لشبونة، هي ليلة من الليالي، الليلة التي من المفترض أن يسافر في صباحها التالي، رجل مطارد، برفقة زوجته المريضة، إلى أمريكا بعد أن حصلا على تذاكر سفر، وتأشيرة دخول للأرض الآمنة، فرارا من الذبح الألماني، الذي يمكن أن يطال أي معارض للهتلرية، في زمن الجستابو..
ليلة فقط وينتهي كل شيء بالنسبة لرجل، غير هويته، وسجن عدة مرات وعذب، وقهر، وفر، واضطر أن يقتل ليعيش، ووصل إلى لشبونة، آخر مخرج ليس متسعا كثيرا، لكنه مخرج ينفتح على الأرض الجديدة البعيدة، لكن الزوجة الرقيقة، شقيقة أحد جنرالات البوليس السري التي ضحت بالاستقرار من أجل زوجها، وتبعته في رحلة البحث عن حياة، ينهكها السرطان أثناء رحلات الفرار، من مكان إلى مكان، وتموت في لشبونة، وهكذا ينتقل الحلم من رجل محطم، وزوجة ميتة، إلى شاب متشرد، وزوجة صبية حية، سيسافرا إلى العالم الجديد، بتذكرتي الحلم، بشرط أن يستمع الشاب إلى قصة الحرب والحزن والخوف وفقدان الهوية، وكل ذلك يحدث في ليلة من ليالي لشبونة. الليلة الغطاء التي حملت الهواجس من ذهن رجل لآخر، التي غطت الحزن، والتي سهلت وصول الحلم المجهض، لينتعش مجددا، بعد تلقيه بواسطة الحالم الجديد. إذن حصلنا من تلك الليلة على قصة، لن نقرأ مثلها كثيرا.
ليل تشيلي، التي كتبها روبرتو بولانيو، وترجمها عبد السلام باشا، رواية أخرى من روايات الليل الملهمة، ولطالما كان بولانيو، الذي رحل مبكرا في سن الخمسين، من الذين أضافوا للواقعية السحرية بهارا خاصا، وتبدو أعماله ممتعة فعلا. هنا الليل ستار للشعر والسحر والعنف، والحياة الخشنة، والناعمة معا. الليل الذي يحتاجه المجتمع الغاص بالعري، ليستتر، والمجتمع المحتشم أيضا، ليتعرى، ولو لفترة قليلة.
كانت شخصية البطل، القس، ملائمة لتستتر في ليل تشيلي، من كل ما فيها وما في الليل من تناقضات. وهكذا يجد القارئ نفسه مضطرا ليسهر في ليل افتراضي، يتشبع به، من دون أن يبدو ثمة صباح في الأفق.
كثيرة أعمال الليل، وهناك رواية اسمها أعمال الليل والبلدة، للسوداني إبراهيم اسحق، واحدة من كتابات الواقعية السحرية، التي برع فيها إبراهيم، كلها تدور في قرية، وأيضا هناك ستار الليل الذي لا بد منه ليظلل الحكاية.. وحيد الطويلة، الكاتب المصري المدهش، كتب روايته: باب الليل، كتابة راقية، فيها أسلوبه الذي لا يخلو من فكاهة وظرف، وأود أن أتعرض لهذه الرواية في مقال آخر منفصل.
من الأعمال الجيدة، العربية، والتي تتخذ الليل المعنوي ستارا لتبرير الكآبة، والوحشة والوسواس، وضياع الهوية، رواية قميص الليل للكاتبة السورية: سوسن جميل حسن. وكما هو واضح من العنوان، كان الليل هنا كساء معنويا يرتديه الحكي، ويرتديه الشخوص، ويرتديه الوطن كله. الليل هنا ليس قصة حزينة عن الحرب، يستمع إليها أحدهم في مقهى، كما في ليلة لشبونة، بل هو أقسى من ذلك كثيرا، لأنه يوميات تجري حية، وعلى القارئ أن يعيشها بكل ما فيها من ألم وخسارات. كيف اغتصبت الهويات، كيف قتلت حتى الآمال داخل النفوس، وكيف أصبح الوطن الذي كان الحضن الأخير المتفرد، إلى متشرد هو أيضا يفر من الموت، ولكنه يموت في النهاية. لقد كانت حياة، بطلة القميص، وراوية الليل تكتب يومياتها، كانت تكتب نفسها وفي نفس الوقت، تكتب ضياعا عاما يحدث أمامها ولا تستطيع أن تفعل شيئا سوى المكوث في الليل إلى ما لا نهاية..
عشرات الحكايات التي اقتنصها الليل أو اقتنصته، تسمّى بها وتسمّت به، وهناك أيضا حكايات يفترسها الليل الحقيقي، أو المعنوي لكنها تحمل أسماء أخرى، وأظن أنه مع ما يجري الآن في العالم، من سيطرة الليل المعنوي على شؤون الحياة، في كثير من البلدان، سنرى في المستقبل، أعمالا جليلة، كلها في الليل وعن الليل، وأظن شخصيا أن لا خيال سيلعب أي دور في تلك الحكايات، فقد صيغت واقعيا بخيال يفوق كثيرا، خيال الأدب والأدباء.
كاتب سوداني