د عبد الله البديري (نقلا عن أثارة)
حقاً، إنها لألماسة فاخرة نادرة، غير أنها مُغَبَّرة بعض الشيء، مما يحوجنا إلى أن ننفخ غبارها لتزداد توهجاً وكارزما وقيمة. تمثل موريتانيا حالة عجيبة من التفرد في مجالات عديدة، على أنه ليس من المبالغة في شيء، حينما نذهب إلى القول إن الإنسان الموريتاني يجسد نسخة أصيلة من شخصية العربي، إذ هو الأقرب إلى: تواضعه المجلل بالهيبة، وعمقه الممزوح بالعفوية، وحفظه المزدان بالفهم، وكرمه المجافي للتكلف.
الإنسان الموريتاني يمثل أفخر أنواع الكارزما والبطولة، حيث يجسد نوعاً أو آخر من “كارزما اللاكارزما” و”بطولة اللابطولة”، ولذا تجده في العادة خفيض الصوت، عالي الحجة، رافع المعنى، هاضم الأنا، مع شهامة ونبل، وأريحية وحسن معشر. هذه الكارزما ربما لا يستشعرها أكثر الموريتانيين لأسباب كثيرة، ليس هذا مجال بسطها. وهذا ما يؤسس في نظري أحد أهم مكونات الفخر أو الاعتزاز الوطني، فالمكون الأخلاقي المعنوي لب الاعتزاز وأساس الانتماء، وهو مقدم على الأطر المدنية الصرفة، وما يلحق بها من خدمات حياتية ونحوها، مع وجود قدر من التأثير للأخيرة، إلا أنها فرع لا أصل.
وهنا أوجه رسالة للشباب والشابات الموريتانيين وخصوصاً المغتربين منهم في العالم العربي أو الغربي، حيث نلحظ عند بعضهم غمطاً لحق الكبيرة الجليلة “موريتانيا”، انجراراً وراء ضغوط اللحظة الراهنة في المعيش، متغافلين عن لباب الاعتزاز بالأوطان. ونقول لهولاء جميعاً: ارفعوا رؤوسكم عالياً فأنتم موريتانيون. هذه الأصالة الثرة المكتنزة في بلدكم، ليست مجرد ذخائر معنوية حضارية فحسب، بل هي ذخائر اقتصادية أيضاً. إنها تمثل مخزناً هائلاً لتعليب الثقافة المحلية وجعلها تحمل قيماً اقتصادية مضافة. كيف يكون ذلك؟ في هذا السياق، أشير إلى أنني لا أؤمن بتسليع الثقافة كما هو الحال في سياقات المجتمعات الحديثة في ظل النيوليبرالية المتوحشة، ولكن بجعل الثقافة رافدًا تنمويًّا، يجلب ثروات، ويخلق وظائف وفق الوتيرة الملائمة لأوطاننا، طبعًا بجانب أهدافها الرئيسة المجتمعية الكبرى. هذا ما يستلزم عدة وقفات وأمثلة للتوضيح:
استخدمت منظمة اليونسكو مصطلح “الاقتصاد الإبداعي” Creative Economy، وأصدرت تقريرًا مطولاً حوله في عام 2013[1]. في هذا التقرير المهم ركزت اليونسكو على مصطلح “الاقتصاد الثقافي” Cultural Economy، مع تشديدها على فكرة “الثقافة المحلية”، والدور الذي تلعبه كل مدينة في الدولة في هذا الإطار، بحكم أنها تتوافر على مقومات أو لنقل خلطة سرية لإنتاج ثقافة ذات نكهة محلية خاصة. وفي هذا التقرير الأممي وضعت اليونسكو نموذجًا مقترحًا للصناعات الثقافية والإبداعية، يمكن أن يكون منطلقًا جيدًا لبناء نموذجنا الموريتاني الخاص. نطالع في التقرير أن المنتوجات الإبداعية في عام 2011 تضاعفت مرتين – مقارنة بما كانت عليه في 2002 – وزيادة إسهامات الدول النامية بمعدل 12.1 % في الفترة ذاتها، مشددة على أن الثقافة والإبداع محرك تنموي كبير.
وهنا نشير إلى أن عموم الثقافة الموريتانية تشكل “ثقافة محلية” ذات كارزما طاغية، حيث تتسم بدرجات عالية من العفوية والتلقائية والبساطة، وتمتح من الأعراف والتقاليد الأصيلة، سواءً أكانت من جهة اللغة واللهجات أم الأزياء أم الفنون أم المعمار أم الرعي أم الفلاحة أم السلوكيات، مما يجعلها عوامل جذب سياحي، فثمة سياح يهربون من الفضاءات السياحية المعولمة ، فقد باتت نسخاً مكرورة، لا روح فيها ولا تفردَ. والموريتانيون يمتلكون ما لا يمتلكه أكثر العرب، حيث حافظ الموريتانيون على درجة عالية من النقاء الثقافي، فلم يتعولموا كما تعولم غيرهم.
ويمكن أن نلتقط مثالاً عملياً واحداً، من شأنه صناعة ما بات يسمى في أدبيات الإدارة الإستراتيجية بـ المزايا التنافسية المستدامة Sustainable Competitive Advantages ، حيث يؤكد “مايكل بورتر” في كتابه الشهير[2] على ضرورة أن تخلق كل دولة باقة من هذه المزايا، بحيث تغدو أدوات فعالة لتنويع قاعدة الاقتصاد الوطني وتعزيز مصادره. ثمة ميزة تنافسية مستدامة تملكونها أيها الموريتانيون النجباء، وتتمثل في امتلاككم ناصية اللغة العربية. هنالك طلب عالمي كبير على تعلم اللغة العربية، حيث تقدر الأعداد بعشرات الآلاف، وهي في تنام مستمر، وإنني أجزم بأن موريتانيا لو تحركت في هذا المجال، فستكون الوجهة التعليمية الأولى لكل منْ رامَ تعلم العربية، حيث سيجد المتعلمُ بغيته، فهو واجد فضاء خصباً نقياً، مع سياق صحرواي محلي؛ مشبع بالعادات والتقاليد العربية الأصيلة. سيترتب على هذه الميزة التنافسية توليد مئات الملايين من الدولارات، وستحرك هذه الميزة سلسلة من الأنشطة، مثل: الطيران والنقل والسكن والضيافة والدعم اللوجستي، وستخلق آلاف الوظائف، وتؤسس مئات المشاريع الكبيرة والمتوسطة والصغيرة. ستكون رافعة تنموية ثقافية حضارية كبرى، وهي بحاجة إلى تضافر وثّاب سريع في التخطيط والتنفيذ، وتنسيق عالٍ بين: الحكومة والنخبة (المهاجرة والقارة وما أكثرها) والمتخصصين الاقتصاديين والفئات الشابة من الجنسين، إذ يتوفر كثير منهم على مستويات مرتفعة من الإبداع والمهنية والجدية.
من جانبه وفي اتجاه معزز لما سبق، حرر “جون هارتلي” – أستاذ وعميد كلية الصناعات الإبداعية بجامعة كوينزلاند للتكنولوجيا في أستراليا- كتاباً مهماً بعنوان: “الصناعات الإبداعية” [3]Creative Product، وفي هذا الكتاب ساق العديد من المؤشرات التي تؤكد أن المعرفة والأفكار تقودان عملية تكوين الثروة والتحديث في العقود الأخيرة، وأن التفكير الاعتيادي أو التقليدي في مجتمع المعلومات غير كاف على الإطلاق.. وفيه تأكيد جازم أن الإبداع سيقود التغير الاجتماعي والاقتصادي في هذا القرن. ويوضح هارتلي أن فكرة الصناعات الإبداعية تستهدف توضيح التقارب المفاهيمي والعملي بين الفنون الإبداعية (الموهبة الفردية) والصناعات الثقافية (النطاق الجماهيري) في إطار تقنيات إعلام جديد داخل اقتصاد معرفة، يستخدمها مواطنون مستهلكون تفاعليون جدد[4].
وفي اتجاه يعزز الحديث عن الدور الخطير لمثل تلك الصناعات في هذا القرن يؤكد أحد مؤلفي الكتاب “ريتشارد فلوريدا”، أستاذ كرسي Hirst للسياسة العامة في جامعة جورج ميسون، أن الطبقة الإبداعية (فنانين وموسيقيين وعلماء) ستكون هي الطبقة الأكثر تأثيرًا، وأنهم سيفرضون أنماطهم في التنظيم والإدارة وساعات العمل. ومن المسائل المهمة في الكتاب أن (جون هوكنز) يلفت انتباهنا إلى أن نمو “الاقتصاد الإبداعي” يتطلب تغييرًا جذريًّا في طريقة “تفكير الحكومات” بشأن المشاريع التي تعتمد على “بيع الأفكار” كصناعات الإعلام والترفيه، مشددًا على أن “الإبداع ليس سهلاً ولا روتينيًّا. إنه نخبوي وتعاوني.. ومن الصعب تنظيمه”[5]، مع التشديد على أن تلك المشاريع تحتاج إلى نمط جديد في الإدارة والمحاسبة والخدمات المالية والبنكية، وما إلى ذلك.
وهنا نشدد على دور وزارات الاقتصاد والثقافة والإعلام محوري في تبني هذا المفهوم وفي ترسيخه وتفعيله، وجعله قابلاً للحياة. من المفيد العمل على استحداث وكالة خاصة للتنمية الثقافية والصناعات الإبداعية في الوزارة المعنية. هذه الوكالة ستكون معنية بإيجاد مزايا تنافسية مستدامة للمنتوج الثقافي المويتاني بكل أشكاله (الكتب، الفن، الرسم والاستعراض…)، وجعله قابلاً للتسويق بشكل أفضل محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وتعظيم العوائد الاقتصادية المترتبة عليه، فضلاً عن عوائده المجتمعية الكبيرة. لو اشتغلت وزارة الثقافة والإعلام في هذا الاتجاه فستكون قادرة على تفعيل دور الثقافة في التعبئة الاجتماعية الواجبة لبناء منصات قوية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك بناء “رأس المال الثقافي” و”رأس المال الاجتماعي”، ورفع معدلات الأداء والإنتاجية، وتعزيز “المنظومة الابتكارية الوطنية” National Innovation System القائمة على فكرة الثقافة المحلية التي تمتلكها موريتانيا بأقدار كافية لخلق مزايا تنافسية مستدامة.
الشخصية الموريتانية خصبة جداً، وهي جديرة بدراسات عديدة من منظورات علم النفس وعلم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي سواء أكانت للشخصية الموريتانية العامة (الوطنية) أو الشخصيات المحلية في المناطق والمدن والأرياف والقبائل ونحوها، وبخاصة أن الدراسات التوصيفية والتشخيصية للشخصية جديرة بأن تسهم في التنقيب في الإيجابي وتنميته وتفعيله، والتعمق في السلبي وتجفيفه وتحييده ما أمكن، وذلك أننا نؤمن بأن “الشخصية ليست سوى مشروع مصير قيد التحقق“[6]، على أن تكون دراسات عابرة للتخصصات ما أمكن، لنظفر بفهم معمق تكاملي.
وبكل الصدق أقول إنني أشعر بانجذاب لهذه الشخصية الفاتنة، وباختطاف صوب صحرائها وثقافتها ولغتها وذاكرتها. لكمْ تمنيتُ أن أغمس ثمَّ .. هناك: حيث لا شيء سوى الأصالة والعراقة والتلقائية .. هناك: حيث لا تشويش على القراءة والحفظ والفهم والتأمل والشاعرية. إن موريتانيا تملك أكبر مصنع لتمرين عضلة الحفظ لدى الإنسان المعاصر، الذي تتآكل حافظته بين يديه، حيث يقتاتْ جهازُه الذكي على جُمَّارة ذاكرته، فيغدو بلا ذاكرة، كائناً خالي الوفاض من العلم والشعر. يغدو كينونة منطفئة منطمرة. إنّ مصنع الذاكرة هذا الذي تمتلكونه أيها الموريتانيون لخليق بأن تحافظوا عليه وتطوروه ما وسعكم ذلك، فالدراسات التربوية الحديثة الرصينة جعلت تعيد التأكيد على محورية الحفظ في التعلم العميق المنتج، مما يزيل خرافة أن “التعليم لا يكون بالتلقين”. وإنّ مثل هذا المصنع لحقيقٌ بأن يخلق لكم عشرات المشاريع التعليمية والسياحية والثقافية والفنية والإعلامية، بقالب من التسويق الحضاري لبلدكم الذي نحبه ونجلُّه. موريتانيا ألماسة مُغَبَّرة، لا تحتاج إلى إعادة تصنيع، إذ هي مفتقرة فقط إلى: نفخة الروح واللغة والابتكار والانتماء، مع قالب تسويقي حضاري حديث.
[1] التقرير معنون بـ Creative Economy Report .
[2] The Competitive Advantage of Nations, Free Press; 1998.
[3] جون هارتلي – محرر، الصناعات الإبداعية – كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة؟ ، ترجمة: بدر السيد سليمان الرفاعي، ع 339، 2017، ضمن سلسلة عالم المعرفة ، الكويت.
[4] السابق، ص 12.
[5] السابق، ص 162.
[6] انظر كتابي: نحو دراسة الشخصية المحلية، إطار تطبيقي منهجي لدراسة الشخصية القصيمية السعودية، بيروت: الانتشار العربي، 2019. وفي هذا الكتاب وضعت منهجية مقترحة لدراسة أي شخصية عربية، في سياق الدراسات النوعية (الكيفية) والكمية.