مع انحسار خطر جائحة فيروس كورونا-19 رغم استمرار ظهور سلالات متحورة قد تكون أسرع انتشاراً من السلالة الأصلية، لن يكون الخطر العام الأول الذي يهدد الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي، وإنما معدلات التضخم المرتفعة في أغلب دول العالم وما قد تؤدي إليه من معالجات خطأ من جانب صُناّع السياسات النقدية والاقتصادية.
وتقول المحللة الاقتصادية البريطانية ستيفاني فلاندرز أن العام الحالي هو العام الذي سنعرف فيه ما إذا كان الاقتصاد العالمي سيحقق ازدهاراً كافياً بدعم أقل من جانب الحكومات والبنوك المركزية، وما إذا كان التضخم المرتفع مؤقتا هو نتيجة جائحة كورونا أو نتيجة مشكلة أكثر استمرارية.
وبحسب المسوح التي أجرتها وكالة بلومبرغ للأنباء والتحليلات الاقتصادية، فإن أغلب المحللين يتوقعون نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 4.4% خلال العام الحالي بعد نموه القوي بمعدل 5.8% خلال العام الماضي.
واعتباراً من العام المقبل وما بعده، يتفق أغلب المحللين عودة الاقتصاد العالمي إلى نطاق النمو الطبيعي في حدود 3.5%، كما لو أن جائحة فيروس كورونا لم تحدث.
وتقول ستيفاني فلاندرز في تحليل نشرته الوكالة أنه ستظل هناك مشكلة واحدة، وهي أنه لا شيء في الاقتصاد العالمي حالياً يبدو طبيعياً، فالأمور خارجة عن السيطرة تماماً. وإذا استمرت الأمور كذلك خلال العام الحالي فسيكون هذا معناه أن صناع السياسات الاقتصادية مخطئون.
وإذا نظرنا إلى سوق العمل كنموذج، سنرى أنه في نهاية 2021 وصل عدد الوظائف الخالية في الولايات المتحدة إلى 10 ملايين وظيفة على الأقل، حيث يقول كل مدير مطعم أو رئيس عمال في مصنع أو رئيس تنفيذي في الشركة أنهم يعانون من أجل العثور على العمال المطلوبين لشغل هذه الوظائف.
في المقابل هناك 5 ملايين أمريكي بالغ كانوا يعملون بأجر في بداية 2020 وأصبحوا لا يعملون الآن لأنهم يرفضون العودة للعمل حتى بعد زيادة الأجور.
وظل صُنّاع السياسة النقدية في مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأمريكي وغيره من البنوك المركزية في العالم يشعرون طوال العام الماضي تقريباً بالثقة بأن النقص في العمالة واختناقات سلاسل الإمداد تعتبر عواقب قصيرة الأجل للجائحة.
وحسب منطق البنوك المركزية فإن الخوف المستمر من فيروس كورونا المستجد وتدفق المساعدات الحكومية الإضافية للمواطنين في الولايات المتحدة كانت من أسباب رفض الكثير من العاطلين للعودة إلى العمل. وكانت البنوك ترى أن هذه عوامل مؤقتة ستتلاشى خلال فترة قصيرة.
ولكن اعتباراً من كانون الأول/ديسمبر الماضي تغيرت نظرة البنوك المركزية إلى مشكلة التضخم التي لم تعد “مؤقتة”، وإنما “ستأخذ وقتا حتى تتلاشي وقد تحتاج إلى التحرك”.
كما أن الأسواق المالية تراهن الآن على اتجاه مجلس الاحتياط الاتحادي نحو زيادة أسعار الفائدة ثلاث مرات على الأقل خلال العام الحالي.
وقد بدأ بنك إنكلترا المركزي، الذي يتوقع ارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 6% خلال الشهور المقبلة، برفع سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس (ربع نقطة مئوية). ويتوقع المحللون زيادة الفائدة البريطانية 4 مرات إضافية خلال العام الحالي.
وفي المقابل تقول كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، أن زيادة الفائدة ليست خياراً مطروحاً على مائدة البنك خلال العام الحالي أيضاً، مشيرة إلى أنه لم يرفع الفائدة على مدى أكثر من 10 سنوات.
وتعتبر منطقة اليورو التي تضم 19 دولة أقل عرضة لمخاطر التضخم مقارنة ببريطانيا والولايات المتحدة، إلى جانب تعافي اقتصاداتها بوتيرة أبطأ.
ومع ذلك بدأ معدل التضخم يرتفع في المنطقة ليصل إلى 5% سنوياً خلال كانون الأول/ديسمبر الماضي، وهو ما قد يزيد الضغوط على البنك المركزي الأوروبي لزيادة الفائدة. في الوقت نفسه فإن البنك المركزي الأوروبي، وهو من الأهم في العالم، سيسحب حزم الدعم الاقتصادي، ولن تتأخر البنوك الأخرى في اتخاذ نفس الخطوة.
ومعنى ذلك أن المسار الاقتصادي لعام 2022 سيتحدد من خلال ما إذا كان هناك تعافيا أقوى من المطلوب أو تعافيا أقل وأبطأ كثيراً من المطلوب.
في الوقت نفسه فإن المحللين في خدمة “بلومبرغ إيكونوميكس” يتوقعون أن يكون تأثير تفشي المتحورة أوميكرون على النمو الاقتصادي ملموساً، لكنه سيكون قصير الأجل.
ففي كل مرة تصل فيه معدلات العدوى الذروة، تكون تكلفتها الاقتصادية أقل نظراً للخبرات المتراكمة في التعامل مع الجائحة بما يقلص تداعياتها الاقتصادية.
من ناحيته يحذر زياد داوود، المحلل الاقتصادي في خدمة وكالة “بلومبرغ إيكونوميكس”، من أن مصر والبرازيل والأرجنتين وجنوب افريقيا وتركيا ستكون الأشد عرضة لتداعيات زيادة أسعار الفائدة الأمريكية، بسبب احتمالات خروج الاستثمارات المالية منها في حال تحسن جاذبية سوق المال الأمريكية بعد رفع سعر الفائدة، الأمر الذي سيزيد معاناة عملاتها المحلية ويرفع تكلفة اقتراضها من أسواق المال.
وبشكل عام من المتوقع استمرار رفع أسعار الفائدة في الاقتصادات الصاعدة. لكن محللو الوكالة يتوقعون نمو هذه الاقتصادات مع استبعاد الصين بمعدل 4.8% خلال العام الحالي، وهو ما يقل بمقدار نقطتين مئويتين عن العام الماضي، وإن كان المعدل أعلى من مستويات ما قبل الجائحة.
أخيراً هناك سبب مهم يمكن أن يجعل العالم قادراً على تجاهل تأثيرات تشديد السياسة النقدية للبنك المركزي الأمريكي وهو أن البنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان المركزي سيتمسكان بالسياسة النقدية المرنة خلال العام الحالي، وهو ما يعني استمرار تدفق الأموال الرخيصة إلى الأسواق العالمية التي قد تتجه إلى الأسواق الناشئة.