لا أحد منّا ينكر قَدامة النزاع بين النقد والإبداع حول التصوّر الجمالي للأشياء والأحياء وأشكال تحقيقه في النصّ. وهو نزاع يعضد فيه أحدهما جهدَ الآخر كلما وهن العَظْم منه، ويقوّي حضوره بين الناس كلما تناسوه. وقد خلّد تاريخ الكتابة العربية معارك بين الناقد والكاتب عنيفةً على غرار معركة علي بن الجهم مع البحتري ومعركة المتنبي مع ابن عباد ومعارك طه حسين مع خصومه. وأعْجَبُ ما في أمر هذه الخصومات هو انتصار الكتابة فيها على المتخاصمين جميعهم، وفوزها بمعانٍ جديدة.
غير أن الملاحظة تؤكّد أن حال النقد والإبداع في المشهد الثقافي العربي الراهن تشي بفوضى عارمة من النقد والإبداع طغت فيها سلطة النقّاد على رعاياهم من الكتّاب، وخضع أثناءها هؤلاء الرعايا إلى وصايا حكماء النقد في كل فعل إبداعيّ ينجزونه، حتى صارت لنا، مع بعض التعميم المتعمَّد منّا، آلاف القصائد التي لا تختلف إلاّ في العنوان، وظهرت عندنا مئات الروايات التي ما إن يفكّر الروائيّ في كتابة واحدة منها حتى يكون بمستطاع القارئ تصوّر تفاصيلها لعلمه بأنها ستُكتب وفق الخطاطة والثيمة السرديتيْن اللتيْن كُتِبت بهما سابقتُها وارتضتها ذائقةُ حكماء النقد.
ويبدو أن أسباب فساد علاقة الناقد مع الكاتب تعود إلى أمرين: أولهما استمراء الكاتب لوقع سياط الناقد على كيانه الإبداعيّ وضُعف نزوعه إلى التحرّر من سلطته، وثانيهما قوّة الناقد العلائقية على شَكْم قلم أيّ مبدع يُبدي عصيانه كما تفعل أجهزة البوليس. وقد ساعد هذا الوضع على أن يحتلّ الناقد في متخيّل أغلب الكتّاب العرب صورة الكائن المقدَّس الذي تُقدّم إليه الهدايا وتُكتب فيه المدائحُ والأذكارُ خوفا منه ورهبة، ويَسْكت الجميع إذا تكلّم حتى لا تصيبهم لعنته أو يلتهم قلوبهم الصغيرة النيّئة ويُحوّل قصور معانيهم إلى قبور مظلمة يُشرف على نوبات التعذيب فيها عفريت أقرع، وفق ما يشاع عن عذاب القبور.
غير أن واقع الناقد غير ما هي عليه صورته في ذهن الكاتب، فالناقد العربي مدّاح في الجهر بامتياز، بل هو لا يُجيد إلاّ المدحَ، وهو في السرّ هجّاء لموضوع مدحه الأول، بل هو بارع في انتهاك حرمته بلا شفقة أو رحمة. ولا نرى مقالتنا محتاجة إلى أمثلة تدلّل بها على ما تقول، فللقارئ الكريم في ما ينال الناقد في الندوات والملتقيات من تكريم مادي ومعنويّ خير شاهد، وله في ما يكون في جلساته الخاصة في تلك الندوات من تنكيل بممدوحيه أفضل مثال.
ومتى رمنا توصيف الممارسة النقدية العربية الحديثة، قلنا بحذر إنها ممارسة لا تنهض على وعي نقدي يروم مجاوزة القائم من الحكومات الذوقية وتأسيس نظام جماليّ جديد، وإنما هي ممارسة توفيقية ومهادنة أوقعت المنتج النقدي في عديد المطبّات والهَنات لعلّ أهمها أنه صار عمل المتقاعدين عن العمل الذين يملؤون به فراغ وقتهم.
ومن الهَنات الأخرى أن النقد صار ممارسة مدرسانية واجترارية يكتفي فيها الناقد بالظاهر من ماء النص ولا يحفل بوديانه العميقة التي تحتاج إلى حفر وصبر عليه كبير. ذلك أنّ غاية الناقد، وهو ينجز قراءة نصّ مّا، هي أن ينتصر لفكرة في رأسه هو وليس لفكرة في رأس النص، يفعل ذلك مُتّكِئًا باطمئنان على مقولات نظرية غربية دون وعي منه بأنّ أصحابها قاموا بمراجعات لأغلبها ليقينهم بأنها لم تعد تفيد الفعل النقدي. وعليه، تراه يلوي أعناق النصوص لتلائم فكرته حتى يكاد يستلّ منها أنفاسها، وفي خلال ذلك يظلّ يحشد في كتابته من الشواهد ما يتجاوز حجم كلامه الشخصيّ، بل تراه يستلذّ الإكثار من عبارة «قال فلان» وأخواتها دون أن يسأل نفسه: وماذا قلتُ أنا؟
ويبدو أن تلك النقدية المدرسانية منعت النقد العربي من أن ينهض على مشروع فكري واضح وجريء وملبٍّ لانتظارات نصوصنا الإبداعية. وفي زعمنا أنه متى لم يتكئْ الفعل النقد على دعامة مشروع صار فعلا غير شرعي أدبيا. ومن ثمة، يخرج من الجماليّ ويدخل باب التجاريّ، ويصير ممارسة ربحية تحكمها قوانين العرض والطلب وتنامي الأزمات الدولية. ولنا في أحوال نقّادنا الكبار صورة عن هشاشة الفعل النقدي لعلّ أجلاها حال دكتورنا الفاضل صلاح فضل أطال الله عمره. فهذا الرجل المولود سنة 1938 والنازح اختيارا إلى أبوظبي، قد عاش إلى الآن سبعة وعشرين ألفا وأربع مئة وخمسة وتسعين يوما (27495) قضى أغلبها في ممارسة النقد إلى حدّ امتلك فيه القدرة على أن يتحدّث في كلّ شيء، كأنْ يقدّم في اليوم الواحد محاضرة في زراعة البندورة، وأخرى في سباق الهجن، وثالثة في توليد السمينات، ورابعة في الميكانيكا، وخامسة في الشعر المليوني، وسادسة في الأدب السلطاني، وسابعة، وثامنة، شرط أن يُدفع له نقدًا ودون حساب.
وببعض التأليف، يمكن أن نوزّع النقد العربي على أنواعٍ ثلاثة: أولها نقد جوائزيّ يُكتب وفق المطلوب من معايير المسابقات والمناسبات. وثانيها نقد جنائزي يُكتب لتمجيد النصوص وإطراء أصحابها وتعداد خصالهم كما يحدث أثناء تأبين الموتى. وثالث الأنواع هو النقد الإبداعي الذي يُكتب خالصا للنص وفي سبيل النص ويكون منه سبيل القارئ إلى معانيه، بل ويكون منه قيمته الجمالية المضافة. وهو نقد واعد ينجزه نقّاد شباب، ولا يجد سبيله إلى الناس إلاّ عبر المنابر الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي لانعدام قدرة أصحابه المادية والعلائقية على إصداره في كتاب.
وفي رأينا أن أمل نهوض النقد العربي معقود على هؤلاء النقاد الشباب شرط أن يقدروا على افتكاك حقّ الوجود في المشهد الإبداعي، وأن يحرصوا على إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر دون أن ينسوا إعطاء ما للشيطان للشيطان (نعني هنا شيطان الإبداع).
عبد الدائم السلامي