ليس ثمة شك في أن السيرة الهلالية تعد هى إلياذة العرب، إنها تحتل نفس المكانة الأدبية، ونفس المكانة من قلوب الجماهير العربية خاصة مصر وتونس والجزائر واليمن والمغرب ودول الخليج العربي، فلقد قامت- مثل الإلياذة- على حرب طويلة الأمد، برزت خلالها شخصيات ملحمية حققت جماهيرية واسعة بناء على حضورها القوي في الوجدان القومي كما لو كانت شخصيات واقعية على قيد الحياة، يتعصب لها البعض، ويتعصب ضدها البعض الآخر، ولكل من الفريقين أسبابه الإنسانية والأخلاقية حسب درجة فهم واستيعاب كل منهما لمعاني الفروسية وأخلاقها، ومعنى البطولة ومراميها. تعد السيرة الهلالية بحلقاتها الثلاث الريادة والتغريبة وديوان الأيتام السيرة الأكثر انتشارًا في الوطن العربي؛ إذ تمتد دائرة السرد الهلالي لتشمل المنطقة الواقعة من العراقشرقًا إلى المغرب غربًا، ومن سوريا شمالا إلى جنوب الجزيرة العربية والسودان جنوبًا. وقد وجد الباحثون قصصًا عن الهلالية لا تزال تتردد في مناطق بغرب نيجيريا، وحول بحيرة تشاد، وبلهجات اللغة العربية المحلية هناك.
وأقدم إشارة إلى بنى هلال كانت إشارة ابن خلدون إلى حلقة من حلقات الهلالية تركزت حول شخصية الجازية وصلتها بالتغريبة. إذ يقول عبد الرحمن بن خلدون: «ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقيا طرق في الخبر غريبة، يزعمون أن الشريف ابن هاشم كان صاحب الحجاز يسمونه شكر بن أبي الفتوح، وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحها إياه، وولدت منه ولدا اسمه محمد، وإنه حــــدث بينهم وبين الشريف مغاضبة وفتنة، وأجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقيا. وتحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية، فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم، وخرج بها إلى حللهم فارتحلوا به وبها، وكتموا رحلتها عنه، وموهوا عليه أنهم يباكرون به للصيد والقنص، ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه، وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه، فرجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وأنها بعد ذلك كلفت به مثل كلفه بها إلى أن ماتت من حبها. تفيدنا ضياء الكعبي أن إشارة ابن خلدون في بيان كون السيرة الهلالية كانت معروفة في عهده، أي القرن الثامن للهجرة، بيد أن ابن خلدون اعتمد الرواية الهلالية أو تاريخ الجماعة الثقافي في بيان الريادة الهلالية. والرواية التاريخية تخالف ما قاله الهلاليون، وما نقله ابن خلدون عنهم « فشكر الملقب بتاج المعالي، واسمه محمد، ويكنى أبا عبد الله تولى إمارة مكة من عام 432 – 453هـ، وأُثِرَ عنه أنه جمع في ملكه بين مكة والمدينة بعد أن غلب على بني الحسين، ولم ينجب ذكوراً يتولى أحدهم الإمارة بعده، وقيل إن الذي خلقه عبد له».
ويخالف تاريخ السيرة الهلالية (المتخيل) الصورة التي رسخها بعض المؤرخين، ومنهم ابن الأثير عن تنقلاتهم وتغريبتهم وإحلالهم الخراب في البلاد والعباد. فالريادة تؤسس للجمـــــــاعة الهلالية نسبا أسطوريا يصلهم بالأوس بن تغلب جدهم الأكبر المزعوم. كما يضفي الراوي على الجماعة الهلالية وانتقالاتها في الفضاءات المختلقة طابع القداسة. فكان لقاء هلال (الجد الأسطوري) بالرسول (صلى الله عليه وسلم)، ودعاء فاطمة الزهراء لبنى هلال بالتشتت والانتصار.
وعلى الرغم من كون نصوص السيرة الهلالية قد حظيت باعتراف التاريخ الرسمي لكون متنها ( Gorpus ) يشكل أحداثًا تاريخية عاشتها القبيلة الهلالية إلى أن نص السيرة القابل للإدماج والإضافة والتحوير ينتمى في كثير من مواضعه إلى الأدب العجائبي بما في ذلك الجغرافيا المتخيلة التي تخالف الجغرافيا التاريخية، وكذلك الأحداث الخارقة والعجيبة. فقد تضمنت السيرة مواقع أسطورية واشتملت على أحداث متعلقة بالسحر، والعين الحاسدة والأحداث الخارقة للعادة مثل الغول، والثعبان ذي الرؤوس العشرة وغيرها.
والنسق الثقافي الذي تصدر عنه السيرة الهلالية هو نسق الجمـــــاعة. وتبرز البطولة الجماعية في تغريبة بنى هلال؛ إذ ينعقد لواء البطولة في هذه التغريبة للجماعة الهلالية التي يمثلها كل من أبي زيد، ودياب بن غانم، ومرعي، والجازية وغيرهم. وهم يرتبطون بهذه الجماعة التي تؤطر حركتهم في المكان، وكان بروز الجماعة الهلالية بروابطها الأبوية سببا في تماهي بعض الجماعات بها؛ أي العصبية القبلية. وتشير ضياء الكعبي إلى أن قرية بنى هلال في محافظة سوهاج المصرية تمثل تقاليد الهلالية وطقوسها، فالقرية تغير بأكملها على قرية مجاورة لها في صورة الثأر الجماعي. كما أن نساء هذه القرية يحملن الرايات ويضربن الدفوف إيذانًا بالثأر على شاكلة الجازية والفتيات الهلاليات. وأهل هذه القرية يؤكدون انتسابهم إلى جدهم الأكبر أبي زيد الهلالي.
وإلى جانب هذه القبيلة الهلالية فإن الغجر في بعض رواياتهم يزعمون أن أبا زيد الهلالي جدهم الأكبـــــر، وأنه كان المنشد الأول لهذه السيرة. وتذكر بريجيت كونللي Bridget Connelly أن تماهي الرواة والمتلقين مع سيرة بني هلال ومع أبي زيد الهلالي خاصة يبرز في بعض مناطق شمالالسودان وغانا وتشاد ؛ إذ يطيل الراوي الوقوف عند ولادة أبي زيد الهلالي ولونه الأسود، وما واجهه من إقصاء القبيلة ونبذها . في حين يعد أبو زيد الهلالي في بعض الروايات الفلسطينة (الشفاهية) الاسم الملحمي لشخصية الفدائي، وهو نوع من التماثل المدرك ؛ فالراوي الذي لم يعد يرغب في نقل السيرة الهلالية يعمد بطريقة شعورية إلى إدخال الحاضر في سرده لأنه هو نفسه ينتمي إلى مجموعة تخوض صراعا ينعته الراوي بأنه ملحمي، وتتحول الجازية الهلالية في إحدى الروايات التونسية إلى شخصية نسوية من التـــــاريخ التونسي الحديث هى عزيزة عثمانة، وهي (عزيزة بنت عثمان باى) التي عاشت أواخر القرن السادس عشر الميلادي ( 1560 ـ 1610م)، وعرفت بأعمالها الخيرية لفائدة الطبقة الكادحة، وكأن الراوي أراد أن يؤكد المنحى الجمـاعي في شخصية الجازية وإيثارها العاطفة القومية التي تربطها بالجماعة الهلالية.
وربما كانت شخصية دياب بن غانم «رجل الحركة الدائبة الذي لا يريح فرسه» سببا في تماثل بعض الروايات الليبية معه ففي بعض هذه الروايات يصبح دياب الهلالي عمر المختار ضارباً بسلاحه جنود الاستعمار الإيطالي، وفي روايات أخرى حديثة يصبح دياب معمر القذافي أو صدام حسين! مما أتاح لنا لمس مدى تأثير الهلالية على مجتمعها من عشاقها ومدمنيها على امتداد أجيال عديدة، عبر مجتمع الرواة الذين خلبت السيرة ألبابهم فمنحوها أعمارهم كأنهم يؤدون رسالة مهمة في الحياة أن يصيروا من رواة السيرة الهلالية والتي سلكت طريقها لديهم من الآباء في ظروف أتيح فيها للمتلقي الإصغاء والتفاعل مع عالم السيرة الخلاب، فكان فعل الأداء لديهم يقوم على استلهام تراث السيرة الشعبية عبر تواصله الشفاهي بواسطة التفاعل الحي بين مشاركيهم وبهدف تقوية إحساسهم بهويتهم ووحدتهم ويتعاملوا مع العالم- أحيانا- بنبرة التهكم والسخرية في سيرتهم مؤكدين وجوب تغيير ..ثورة ..ضد اللا مألوف واللاإنساني .. ضد الجموح.. الصمت الموت ما قبل الموت لنرى خصوصية تاريخ السيرة الهلالية وفلسفتها الخاصة التي تجعل من العالم الجزئي والكلي فلكًا واحدًا محوره التجربة الإنسانية الأم .
٭ كاتب واكاديمي مصري
عمرو عبد العزيز منير