منذ أن قامت جمهورية "بنجه" التي تأسست على أنقاض حضارة الطرب الحساني الأصيل، وشاركت في صناعتها واستهلاكها شتى الفعاليات الوطنية، وموريتانيا تشهد ازدهارا منقطع النظير في صناعة التفاهة والتافهين.
وبحكم العزلة التي تعيش فيها بلدان الأطراف فإن تأثر بلادنا بما يجري في محيطها العربي دائما ما يتأخر لمُدد تختلف حسب الظروف، فقد عرف المشرق العربي قيام جمهورية شعبان عبد الرحيم منذ فترة.
ويبدو أن تأسيس جمهورية التفاهة والتافهين بدأ بالفعل يتمطّى البلاد بجوزه، ففي الفترة الأخيرة عرفت البلاد طفرة في الهجوم اللاذع على كل الرموز والنخب تقليدية كانت أو دينية أو ثقافية أو سياسية أو عسكرية، وكأن هناك قوى خفية تريد إخلاء الساحة لمجتمع بديل، ووريث للساحة غير رشيد.
هوجم رجال الدين ورموزه الذين يعتبرون صمام الأمان الديني، وهوجمت المشيخة الاجتماعية التي تشكل أحد ثوابت الأمن والتعاضد، وهوجم السياسيون الذين يشكلون عمود الاستقرار، وهوجم قادة الجيش والأمن الذين يعتبرون درع البلاد الواقي.
فسر البعض هذه الحالة شططا - حسب رأيي - بأنها نتيجة لوعي جديد وانفتاح على الآخر وتوق للنهوض على غراره، لكنني شخصيا ومن خلال الاحتفاء الذي ألاحظه بالتفاهة والتافهين مؤخرا، فإنني أجزم بأن الهجوم القاسي على النخب لم يكن سوى محاولة لمسح الطاولة، وإتاحة فرصة لتأسيس دولة التافهين.
وغني عن القول إن المطبلين لتأسيس دولة التفاهة لن تعوزهم الحجة لتبرير مقاصدهم؛ فلهم في أخطاء النخبة وما جرته على البلاد خلال العقود المنصرمة آلاف الحجج البالغة، لكنني أجزم أيضا أن ما عجزت النخبوية والرصانة عن تحقيقه لن تحققه التفاهة ما دام نجم في فلك.
إن أي جمهورية بدأت بـ"بنجة" كبديل للطرب الراقي، لجديرة بأن يكون نخبها فتيات الإعلانات، مثل "شيري مد" وأخواتها، وأن يكون موجهوها مدونو "المهجر" وأن تكون لـ"زيدان وبنة ولد الشنوف" مكانة إعلامية فيها، وأن يتفوق فيها إنتاج يشبه إنتاج "السبكي" على غيره، لأنها بصراحة جمهورية تافهة تدعم التفاهة ومن الطبيعي أن تكون نخبتها تافهة وأن يكون العرض والطلب فيها منحصرا على التفاهة والتافهين.
وبما أن الإعلام هو المختبر الأول الذي تهيأ فيه نخب المستقبل وفاعلوه، ومن خلال متابعتي لاهتمامات الإعلام والميديا التجارية في البلاد ونوعية ضيوفها، فإنني أجزم تماما أن بلادنا مقدمة على مرحلة يمكن أن تنال بها عن جدارة لقب "دولة التافهين".
إن أي مجتمع يغمط فيه العالم حقه حتى تجد ولد الددو وعبد الودود ولد الشيخ وأمثالهم على الهامش، وتشاهد الفرق في التفاعل بين دُرر أبو العباس أبرهام والدهماء ريم، وبين منشورات فتيات الإعلانات، وتكون "بنجة" وسيلة للطرب، لهو مجتمع يعاني من خلل بنيوي وتعطل في الذائقة يتطلب تدخلا جراحيا مستعجلا.
قد يقول قائل إن هذا ما يطلبه السوق ويلاقي رواجا فيه، لكنني لا انتقد الحالة من حيث التماشي معها، بل من الناحية الوجودية أصلا، لأنها في نظري تعد خللا اجتماعيا يتطلب الدراسة والتفكير.
إن أي مجتمع هذا سَمتُه، لمن شبه العادي أن يكون للرويبضات فيه مكانة، وأن تتطاول الطفيليات على الأعلام، وأن تكون لها كلمتها، ولها جمهورها أيضا، فالمجتمع فاقد للبوصلة.
وللعبرة: فإن وضع العقلاء في المقدمة قد لا يضمن الانتصار، لكنه سيحول حتما دون تعريض المحاربين للمهالك، عكس ما لو وضعنا "حمارا" في المقدمة فإن بإمكانه أن يهلك المحاربين ويهلك نفسه في نفس الوقت.
الشيخ ولد المامي