العقل الثقافي ورهاب الاستعمالات السياسية

أربعاء, 2014-10-01 13:08

تضعنا الأفكار المتصارعة دائما عند جدل عاصف، وعند مناطق موتورة في الخلاف، اذ يأخذ هذا الجدل والخلاف قوة مضخمة للبحث عن الجديد، والبحث عن المغاير، خاصة وان مفاهيم الجديد والمختلف باتت اكثر اثارة في عصرنا المفتوح على كل شيء. ولعل مايثيره البعض من كتابنا من حوارات فكرية ومن رؤى لنقد تاريخ هذا الصراع او هيمنة بعض حلقاته، يضعنا في صلب هذه المواجهة، بوصف هذه المواجهة باتت اكثر تمثلا لعملية الكشف والبحث والمراجعة، واثارة مايتجلى من ظواهر واسقاطات مست جوهر النظر الى استعمال الافكار العقائ،د، والتعاطي مع التابوات، ومنها تابوات السلطة والحرية والجسد والخطاب الديني. 
سوسيولوجيا البحث عن وجوه الازمة التي يعيشها العقل السياسي والثقافي العربي الان، هو مايعنينا بشكل خاص، لان هذه السسيولوجيا تحولت من كونها عملية اجتماعية في توصيفها الى عملية مواجهة وتصفية حسابات بين الافكار والتيارات والجماعات وماتحمله من قيم، خاصة مع انهيار نظام التابو السلطوي العربي مع ماسمي ب(ربيع الثورات العربية) وبروز تابوات اكثر خطورة واكثر تأثيرا على العقل المجتمعي العربي، ومنها ما يتعلق بازمة وعي العقائد والايديولوجيات، وازمة الحاكمية والحريات، والنظر الى الاخر في ضوء معطيات صراعية معقدة، وكذلك اعادة قراءة مفاهيم العدو والصديق والمحرم والمحلل وكيفية التعاطي بدون آثام مع عقد ظلت قارّة وظاغطة في مخيالنا السردي، خاصة في النظر الى عقد الحداثة والسلفية، او عقد الديمقراطية والعلمانية وبناء الدولة الدستورية وغيرها..
البحث في هذه القضايا الكبرى تحول الى بحث عابر للعقائد، لأنه اصبح قرينا بمفهوم الحاكمية، وشرعنتها في ضوء وجود المختلف والاخر، اذ بات هذا البحث يلقي بظلاله واحكامه على ايجاد ضرورات تبيح بعض المحظورات كما تقول القاعدة الفقهية لايجاد تقعيدات لمواجهة ما بدا وكأنه ازمة لمواجهة استحقاقات سيرورة الدولة المعاصرة، والتعاطي مع ازمة قواها الجديدة التي تنتمي الى مرجعيات سياسية وفقهية لها مواقف اشكالية- فقهية ووضعية وحتى طائفية- ازاء الدولة والحرية والديمقراطية. فكيف هي زاوية النظر المقترحة لمعاينة هذه الازمة التي اخذت تتفاقم، وتتضخم، والتي يمكن ان تهدد العالم بصراعات مسلحة ومرعبة من الصعب السيطرة على تداعياتها..

الصراع وقراءة المفاهيم

تضعنا أي قراءة مقترحة امام ضرورة وفاعلية كشف الملتبس، وكشف سرائر ازمة التاريخ الذي تتجوهر فيه الكثير من ازماتنا بما فيه ازمة الحاكمية، اذ لم يتحول هذا التاريخ الى متحف، بل تحول الى سلطة دائمة ومهددة، وهو مايمنح مثل هذه القراءة لان تملك دافعية خطيرة لتبرير تجاوز المأزق المحتمل القرين بها، فخلال العقود الاخيرة، وفي ظل هيمنة الشكل العسكري والايديولوجي بمرجعياته القومية للدولة العربية التقليدية، تصاعدت اشكال معينة للصراع، ارتبطت بالعدو الديني، والعدو السياسي، دونما حديث عميق فاعل عن وجود اعداء آخر اكثر قسوة مثل الجهل والتخلف والجوع والمرض والامية وغيرها، وهو ماجعل هواجس كالحداثة والدولة والمجتمع، والامة ووعي الخطاب الديني والسياسي والايديولوجي مبعثا لاثارة اشكالات لم تكن مألوفة ومتداولة، رغم ان هذه الاشكالات ظلت محدودة بين النخب الثقافية، وبعيدة عن الحشد المهيج بالشعارات الكبرى، والخاضع لتوصيفات عمومية للاعداء الدينيين الذين يهددون الدين والعقيدة كما تروج لها السلطات الحاكمة..
هذه الأفكار والهواجس التي اخذ يتسع حضورها في بعض المرجعيات الثقافية، وفي المؤتمرات التي تنظمها هذه الجهة او تلك لم يكن بعيدا عن الرقابة، حتى قيل ان هناك جهات مخابراتية هي التي تروج لهذه الأفكار المعقدة والبعيدة عن مزاج الجمهور البسيط، لكن مع ذلك فان بعض هذه الافكار ومنها ماهو مسيس وذات خطورة على السلطة لم يكن بمنأى عن الرقابة السلطوية وبعيدا عن اجهزتها الامنية؟ فهل كان المفكرون والباحثون والاكاديميون مخلصين جدا لهذه الافكار، وانهم يعملون باجندات بعيدة عن عيون حكوماتهم التي كانت تراقب جيدا؟ وهل ادركت المؤسسات الجامعية ومراكز البحوث المتخصصة خطورة هذه المعطيات في ظل واقع يعاني من هشاشات عميقة؟ وهل تبنت هذه الجهات خطابا ثقافيا لمعاينة ازماتها ومعالجة اثارها الكارثية التي ظلت تكبر حتى انفجرت فازاحت الكثير من السلطات وتحولت الى عنصر غير مسيطر عليه وربما مهدد لغيره من البنيات الاخرى؟ حتى بات السؤال اكثر رعبا في البحث عن جهة او مرجعية عقلانية او مؤسساتية تملك القدرة على السيطرة لمواجهة عدم تحويل هذه الازمات الملتهبة الى حروب اثنية وطائفية قد تهدد السلك الاهلي في المكان العربي الاسلامي بشكل خاص. 
هذه الاسئلة ستظل اسئلة عند الحافة كما تبدو، لأن انماط السلطات الجديدة، بما فيها انماط السلطات ذات المرجعيات الاسلامية ستظل مصابة بفوبيا الازمة، الفوبيا من تهديد الدولة المدنية واطرها وهوية الحكم فيها، الفوبيا من الحريات المدنية الحقيقية، الفوبيا من الديمقراطية والدساتير المدنية، الفوبيا السيطرة على الجماعات الجائعة والمتمردة، الفوبيا من الاحزاب ومن قبول التنوع والاختلاف، بما فيه الاختلاف القومي والطائفي، فضلا عن فوبيات لم تهضمها القوى الجديدة، خاصة فيما يتعلق بالنظر الى مفاهيم جديدة، والتي قد تبدو مفاهيبم ازمة في سياق تداولها، مثل العولمة والهوية، والاقتصاد الحر، والعلاقة المفتوحة مع الاخر، خاصة وان النخب الثقافية مازالت تعاني من تداعي ازمات قديمة لم تتفكك مرجعياتها بعد مثل الاستشراق والحداثة والاجتهاد والتأويل والموقف من الاسلام السياسي، والاحياء الاسلامي والوحدة العربية او الاسلامية، والموقف من الفرق الاسلامية الاخرى وتغييب دور المؤسسة الثقافية ازاء الدور المهيمن للمؤسسات السياسية والدينية، والتي ظلت مجالا اشكاليا لم يتفق عليه الجميع بتعدد مرجعياتهم واجتهادتهم فضلا عن كل مايتعلق بازمات الصراع المكشوفة مع الغرب وامريكا، خاصة بعد احداث ايلول 2001 وسقوط النظام الديكتاتوري في العراق وسقوط نظام طالبان في افغانستان وما اثارته هذه السقوطات من اشكالات لامست عن قرب ازمة نمط السلطة التقليدية، وازمة العقل الفقهوي التقليدي والرسمي في اجابته عن اسئلة الحرية والاستبداد، ومفهوم الحاكمية الظالمة والدولة العادلة والنظر الى التعدديات والاجتهادات…

العلاقة مع الآخر… العلاقة مع الذات

ان البحث عن مصادر خارجية للقوة قد يعني الوقوع في الكثير من المحظور، اذ ان هذه المصادر تمثل التعاطي مع سسيولوجيا الاخر الذي مازال البعض ينظر اليه بارتياب، خاصة بعد احداث افغانستان والعراق، والذي تحول الى قوة باعثة على الجهاد كعين فرض كما تسيميه الادبيات الاصولية، والذي بات اليوم خاضعا لتوصيف مغاير اسقط عنه الفرض الوجوب مع احداث ليبيا التي كان التدخل العسكري الغربي والامريكي مشرعنا فيها من قبل تلك القوى الجهادية، والتي تدفع الان لتدخلها العسكري حتى ولو على طريقة الدخول الى العراق في سوريا لمواجهة نظام استبدادي يشبه في مركبه الايديولوجي والسياسي النظام العراقي الذي كان دافعا للتحريض الطائفي.
الخلاف في هذا المنظور يعكس في جوهره ازمة وعي الذات، وعي المرجعيات الثقافية والاجتماعية وحتى الفقهية في تعاطيها الاجتهادي مع الحاجة والكفاية، اذ تتطلب الحاجة نزوعا باتجاه مضاد، وبما يكون فاعلا على اشباع الكفاية، لكنه ايضا يتقاطع مع اصل النص، ومقياسه الذي وضع خطوطا حمر-خطوط شرعية- ازاء هذا الاخر المختلف والمضاد. من هنا ندرك اهمية وعي قواعد النظر الى هذا المختلف، واهمية النظر اليه ايضا بوعي اخر في ضوء ما يستجد من احداث ووقائع، اذ تجلت دون لبس مواقف واحكام اكدت ان الكثير من معايير النظر الى الذات والاخر كان فيها الكثير من التضليل، وانها انطلقت من نظرة تاريخية قاصرة كرستها المهيمنات القهرية القديمة، اذ لم تعمد الى استقراء ما يمكن ان يقرن هذه النظرة بوعي الارادة وطبيعة استحقاقاتها ووعي الحرية، ووعي ماتحمله من مسؤولية كما يقول عبد الاله بلقزيز، فضلا عن ان الكثير من الطروحات التي كانت تقع تحت تأثير العلاقة مع الغربي المعرفي العلماني، كانت تخضع هي الاخرى الى منظورات ضيقة الأفق لم تسع الى التجديد في ضوء فقه الحاجة والكفاية، اذ ظلت منظوراتها لتجديد النظر في مجالات الفكر الاسلامي تصطدم بالواقع الذي تعيشه الدولة العربية الاسلامية، وانكفائها الى اصطناع الكثير من المصدات الافتراضية التي تحولت هي الاخرى في مراحل لاحقة الى ازمات عميقة والى قيم دوغمائية اضرت كثير بنمو البنيات الاجتماعية والثقافية والسياسية، اذ تركت تشوهاتها على الواقع، وعلى طبيعة العلائق المجتمعية، وفرضت ايضا اشكالا معقدا من الهيمنات والصراعات والحاكميات والعصبويات التي تسببت في مراحل لاحقة عن انهيار الكثير من البنيات، وتحولها بالمقابل الى منظومات محكومة من الاخر الصياني، وخالية من اي شكل للانسنة وللنظام الاجتماعي والسياسي العادل، ولعل النظرة الى تاريخ الهيمنة العثمانية على العراق يكشف عن طبيعة هذه المهيمنات وهذه البنيات المفككة التي حولت العراق التاريخي والحضاري الى بيئة موحشة، بيئة تفتقد الى عوامل سيرورة شكل الدولة وشكل نظامها الاجتماعي والثقافي، وربما كان هذا التاريخ هو المسؤول عن كل مظاهر التخلف والتردي الذي اصاب العراق السياسي والثقافي، وجعله بيئة محتقنة بالصراعات العصبوية التي نرى الآن للأسف عصر تمظهراتها الذهبي.

٭ كاتب عراقي

علي حسن الفواز