عندما تحدث «ميلان كونديرا» في كتابه «فن الرواية»(1) عن أفق الرواية، وعلاقتها بالمستقبل، وإلى أي حد تنتصر لعالم الأزمنة الحديثة، فإنه كان يتحدث عن علاقة الأشكال الأدبية بالعالم الذي يشبهها. أو ما عبَر عنه بقوله عن معنى موت/اختفاء الرواية باعتبارها نموذجا لعالم الأزمة الحديثة: «(…) انها لا تختفي، وإنما تقع خارج تاريخها، يحدث موتها إذن بهدوء، دون ان يراه أحد، ودون ان يثير استغراب أي انسان». (ص14)، ويضيف «إذا كان على الرواية ان تختفي فليس لأنها قد استنفدت قواها، وإنما لأنها تتواجد في عالم لم يعد عالمها» (ص16). وعندما نعود إلى الناقدين «لوكاتش» و»باختين» وموقفهما الجدلي حول حياة الرواية، ومستقبلها، بين انتهائها بانتهاء الطبقة البورجوازية، واستمرارها التاريخي، بفعل قدرتها على احتضان المحتمل والممكن، سنلاحظ ان التفكير التنظيري لجنس الرواية، كان يركز على علاقة شكل الرواية بشكل العلاقة بين الذات والواقع/ العالم. بهذا المعنى، تصبح الأشكال الأدبية عبارة عن رؤى للعالم، تختصر المعنى الوجودي في مرحلة تاريخية. ويشكل تمثيلها الرمزي للأحداث والوقائع، استراتيجية معرفية لتأويل العالم. ان كل تحول ابستيمي للشكل الأدبي، يُنتج مقاربة جديدة للمعنى الوجودي، من خلال إعادة ترتيب مكونات العملية الإنتاجية الأدبية، على غرار ترتيب مواد العالم. لا تشبه الأشكال التعبيرية بعضها، كما لا تشكل قطيعة معرفية فيما بينها، إنما تعد صيرورة في التشكَل والاستمرارية، تستفيد من تطور بعضها، وتتجاوز ـ في ذات الوقت- إكراهات أفق بعضها.
للاقتراب أكثر من حياة المعنى في الأشكال الأدبية، باعتماد عنصر التحولات التي يعرفها المعنى مع كل شكل أدبي، يمكن الانتباه إلى المقاربة الجديدة للمعنى التي تعرفها المعرفة الأدبية مع تجربة النص الأدبي في شكله الترابطي، وذلك بالنظر إلى وضعية المعنى في الطروحات والنظريات المعرفية السابقة، مثل التاريخية والرومانسية والاجتماعية وعلم النفس، وغيرها من المقاربات التي كانت تعتبر الكتابة إما خلقا (الرومانسية باعتماد مفهوم مثالي مثل الإلهام)، أو التاريخي الذي يعتبر الكتابة أثرا للحظة تاريخية مضت، ومن ثم يتحدث عن مفاهيم الشرح والتفسير والانعكاس، أو الاجتماعي الذي يعتبر الكتابة تعبيرا عن مضمون اجتماعي لفئة، أو جماعة اجتماعية .إضافة إلى اعتماد هذه الطروحات على مبدأ الإعلاء من شأن الكاتب والمؤلف في مقابل وضع القارئ في حيز ضيق، وجعله مجرد عنصر تابع، أو ملحق لفعل سابق (فعل الكاتب). ولهذا، فإن وظيفة القارئ – مع هذه المقاربات – تبقى وصفية، تتمثل في إعادة شرح أو تفسير معنى سابق. يتحول القارئ باتجاه الماضي، لكي يبحث عن المعنى الذي تقوله الكتابة، ولا تحيل عليه، أو توحي به، وهذا ما جعل مفهوم التأويل يتعطَل مع هذه الطروحات .
شكلت هذه التصورات وضعا محددا للمعنى، باعتباره منجزا خارج الكتابة التي تعمل على إعادة تصريفه تخييليا. ولذا، هيمنت ثقافة العودة إلى الماضي، والإعلاء من قيمته، والبحث في أرشيفه التاريخي أو الاجتماعي، طمعا في إعادة إحياء المعنى الجاهز. كما ان هذا الشكل في قول الأشياء، والتعبير عنها، كان يختزل رؤية موجودة في الواقع، تنتصر لمفهوم الحقيقة الواحدة، عبر تجليات فلسفة الصوت الواحد، والحزب الواحد، والزعيم. وهي كلها مظاهر تعبر عن كون معنى الحقيقة موجود في جهة واحدة، ولدى صوت واحد. وقد عبرت الكتابة الروائية عن هذا الاتجاه، مع هيمنة تقنية السارد العالم بكل شيء، والموجود في كل مكان (السارد العالم)، والذي يمنح المعنى للأشياء والعالم، ويُطُالب الآخرين بقبولها، وإعادة إنتاجها، مما انعكس على طبيعة حضور ملفوظات الشخصيات، التي جاءت ـ في كثير من الأعمال- مقيَدة بتدخلات هذا السارد العليم /العالم.
ولان مواد العالم غير ثابتة، وتتصف بالحركية التاريخية، فإن التحولات تحدث، ومعها يتغير معنى العالم. ومن ثم، تظهر تصورات جديدة تمنح للإنسانية معنى جديدا لوجودها. تأتي البنيوية وتتجاوز مفهوم المعنى القبلي، وذلك عندما تم الإعلان عن موت المؤلف لدى كل من «رولان بارت» سنة 1968 و»ميشال فوكو» سنة 1969، والذي يعني نقديا، استبعاد المؤلف في عملية الوعي النقدي بالنص الأدبي، وهو نفس المفهوم الذي سيتم تطويره مع منظري النص الترابطي، كما نجد عند الناقد» جورج لاندو» سنة 1997. في مقابل القتل النقدي للمؤلف، يتم الإعلان عن مفهوم النص، والرفع من شأنه باعتباره تشخيصا لغويا للعالم، وليس انعكاسا له. مع إعطاء النص الفهم اللغوي، ومنح قيمة وظيفية للقارئ باعتباره شريكا في إنتاج المعنى، وانتقال العلاقة مع النص من الشرح والتفسير إلى المقاربة والتأويل، ينتقل المعنى من اليقين إلى الشك، ومن الواحد إلى التعددية . يصبح للنص تعددا في المعنى، بدل المعنى الواحد، المنجز مسبقا. كما سيتم تجاوز مفهوم الخلق، باعتماد مفاهيم جديدة مثل التناص، وتعدد اللغات والأصوات، وهي مفاهيم تجعل كل نص عبارة عن طبقات نصية ولغوية وأسلوبية. انتقلنا إذن ، من مفهوم المعنى باعتباره إنجازا مسبقا في الماضي، إلى المعنى باعتباره إمكانية من الإمكانيات المتعددة التي ينتجها القارئ في علاقته بالنص. يتطور دور القارئ، كما يتطور مفهوم الكتابة.
تشكل كل هذه الخلفيات النظرية المستوحاة من طريقة بناء الشكل الأدبي، مرجعا للكتابة الجديدة التي تأتي في علاقة بالثقافة التكنولوجية، ونعني بها الكتابة الرقمية التي تعتمد المنطق الترابطي، في بحثها عن مفهومها للمعنى.
مع الكتابة الرقمية ندخل عالما جديدا في التعبير، ومختلفا جوهريا في طبيعة دعامته التكنولوجية، وتقنياته الجديدة التي تفتح المجال أمام ظهور لغات جديدة، من أجل تحقيق ما يسمى باقتصاد المعرفة. يغادر النص مع الرقمي المفهوم اللغوي للنص، لأنه حالة تتشكَل من المواد التي تؤلف هيئته (اللغة، الصوت، الصورة، الاشتغال بالوثائق والملفات، ملتيميديا، البرامج المعلوماتية…) في الحدود المفتوحة مع القارئ (خيارات خاصة، قرارات فردية، وضعيات نفسية وذهنية، سلوك اجتماعي وثقافي). سيعرف المعنى تحولا بنيويا مع تجربة الكتابة الرقمية. وبالوقوف عند مفهومين اثنين، يُهيمنان على الكتابة الرقمية مثل التفاعل والرابط، يمكن ملامسة وضعية المعنى الجديد الذي تتبناه الكتابة الجديدة. يتضمن التفاعل مفهوم القراءة، لكن بشكل إلزامي- إلى حد ما- لأن طبيعة تركيبة الكتابة الرقمية، تدفع القارئ لكي يتفاعل معها، والتفاعل واجب نصي، وضرورة تقنية، من أجل تحقيق النص أو الكتابة. فالنص غير موجود إلا بإنجاز القارئ لفعل التفاعل، ولأن الرابط الذي يعد تقنية خاصة بالكتابة الرقمية، هو إجراء ضمني، ومُكون نصي لن يتحقق واقعا، إلا حين يقوم القارئ بتفعيله. ولهذا، نكون أمام ما يسمى باقتصاد الكتابة. وما على القارئ إلا ان يحقق الكتابة باعتبارها انتشارا للمعنى، غير انه انتشار غير ثابت، انتشار متغير باستمرار، ليس فقط على مستوى القراءة، إنما أيضا على مستوى القارئ الواحد. مع تجربة كل تفاعل (حالة ثقافية، مزاج نفسي..) يُنتج القارئ شكلا للمعنى. لهذا، يصبح النص نسيجا من العلامات التي لا تجعله يخضع لوضع قائم وثابت، وإنما نصيته تتحقق من حيويته ولا اكتماله، ومن تجربة التفاعل. القراءة/التفاعل هي أفق تحقيق نصية النص الرقمي، باعتباره آخر تطورات الحالة التعبيرية الرمزية. يأخذ المعنى مع الرقمي مفهوم الاحتمال.
الاقتراب النقدي من كل شكل أدبي جديد، هو اقتراب من المعنى الجديد الذي تقترحه العلاقة بين الشكل الأدبي وشكل العالم.
(1):كونديرا( ميلان): فن الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي، المجلس الأعلى للثقافة، 2001
كاتبة مغربية