
القطب سيداتي - كاتب وباحث رئيس تجمع كفاءات في خدمة الوطن
قراءة في تقرير اليونسكو الأخير
مع اقتراب افتتاح السنة الدراسية الجديدة يعود ملف التعليم إلى صدارة النقاش العمومي، خصوصاً بعد صدور تقرير اليونسكو الأخير الذي كشف بالأرقام والوقائع حجم التحديات التي ما تزال تعترض المدرسة الموريتانية، سواء في نسب الإكمال أو في مستويات التعلّم.
التقرير دق ناقوس الخطر حين أشار إلى أن معدل إكمال المرحلة الابتدائية ما يزال دون 70%، وأن نسبة من يصلون إلى نهاية الإعدادية لا تتجاوز 45% لدى الذكور و42% لدى الإناث. والأخطر من ذلك أن كثيراً من الأطفال الذين يبقون في المدرسة لا يكتسبون المهارات الأساسية في القراءة والحساب، وهو ما يضع علامات استفهام حول مردودية النظام برمته.
غير أن التلاميذ ليسوا وحدهم في قلب الإشكال؛ فالتقرير نفسه أشار إلى أن عدداً كبيراً من المدرسين يفتقرون إلى التكوين البيداغوجي اللازم لتأدية رسالتهم، وأن ضعف المناهج وأدوات التقييم يزيد من صعوبة مهمة التعليم والتعلّم معاً. كل ذلك في ظل إنفاق عمومي لا يتجاوز 2.3% من الناتج المحلي، وهي نسبة تضع موريتانيا تحت المتوسط الإفريقي والدولي في مجال الاستثمار التربوي.
الأسباب متعددة ومتشابكة: بنية مؤسسية غير متماسكة، تكوين مهني غير كافٍ للمدرسين، هشاشة اجتماعية تدفع آلاف الأطفال إلى الانقطاع المبكر، وفوارق مجالية وجندرية تجعل الفتيات وسكان الأرياف أقل حظا في الاستفادة من التعليم. ومع ذلك، يظل الأمل قائماً في مشاريع إصلاحية جادة، لعل أبرزها المدرسة الجمهورية التي أطلقتها الدولة في السنوات الأخيرة. هذا المشروع يعوّل عليه الكثيرون لإعادة الثقة في المدرسة الوطنية، باعتبارها فضاءً يوحد مختلف المكونات الاجتماعية، ويرسخ قيم المواطنة والانتماء، ويضمن قدراً من العدالة التعليمية بين أبناء المدن والأرياف.
لكن تحديات اليوم لم تعد محصورة في قاعة الدرس التقليدية. فعصر الرقمنة يفرض نفسه، ويجعل من الضروري التفكير في إدماج التكنولوجيا الحديثة في التعليم، سواء في تكوين المدرسين أو في تزويد التلاميذ بمنصات تعليمية رقمية تساعد على تجاوز ضعف البنية التحتية، وتفتح آفاقاً أوسع أمام المتعلمين في المناطق النائية. النجاح في هذا الرهان يحتاج إلى استثمارات مدروسة في المجال الرقمي، وإلى كفاءات بشرية قادرة على توجيه هذا التحول بما يخدم المدرسة الوطنية.
إن بقاء نسب معتبرة من الأطفال خارج التعليم أو داخله بلا تعلّم فعلي، لا يعني فقط خسارة فرص فردية، بل يمثل عائقاً أمام التنمية الوطنية برمتها. لذلك فإن الإصلاح لم يعد خياراً، بل ضرورة وجودية تقتضي إعادة ترتيب الأولويات، وتوجيه الموارد إلى السنوات الأولى من التعليم الأساسي، وتكوين المدرسين بطرق حديثة، ومعالجة الفوارق الاجتماعية والمجالية بسياسات أكثر استهدافاً وواقعية، مع انخراط المجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني في دعم المدرسة الجمهورية باعتبارها مشروعاً وطنياً جامعاً.
ورغم حدة التحديات، فإن الأفق ليس مسدوداً. فوجود حكومة تعلن بوضوح أن التعليم في صدارة أولوياتها، ووزيرة للتعليم تمتلك خبرة وإرادة إصلاحية، يعزز الثقة في إمكانية كسب هذا الرهان. وإذا ما تحولت هذه الإرادة إلى سياسات فعالة وموارد كافية وتعبئة اجتماعية واسعة، فإن المدرسة الموريتانية ستتمكن من تجاوز أزماتها، وتصبح بحق رافعة للتنمية ومصنعاً للمواطنة.