
الدكتور السالك ولد محمد المصطفى ولد اعل سالم
تـكـتسـب الفتوى أهمية بالغة فـي الشرع الإسلامـي، باعتبارها توقيعا عن رب العالـميـن جل جلاله؛ لأنـها إخبار بحكم الشارع، وتبليغ له إلـى الـمكـلفيـن به؛ لهذا كان العلماء الـمفتون هم ورثة الأنبياء، فهم الآن القائمون بمهمتـهم، ولـهذا وجب علـى من نزلت به نازلة، ولم يعلم حكمها أن يسأل العلماء عن حكمها، كما قال تعالـى: ﴿فَسْئَـلُواْ أَهْـلَ الذِّكْـرِ إِن كُـنـتُـمْ لاَ تَـعْـلَـمُـون﴾ [الأنبياء، الآية: 7].
والـمتتبع للفتاوى التـي تصدر عن علمائنا الأجلاء، ومؤسساتنا الشرعية فـي العصر الـحالـي يجد تباينا كبيـرا فـي فهم الفقهاء للمستجدات، والنوازل الـمعاصرة؛ خاصة تلك الـمسائل الشائـكـة التــي تتداخل فيـها عدة تخصصات شرعية، وقانونية، واقتصادية...، والـمرجع فـي ذلك إلـى تباين تصور الفقهاء للمسائل الـمطروحة أمامـهم، وهذا أمر طبيعـي، فالـحكم علـى الشـيء فرعٌ عن تصوره، كما يقال، والناس بطبيعة الـحال يختلفون فـي التصورات؛ تبعا لاختلافهم فـي الإدراك، وبذلِ الوُسعِ فـي الاجتـهاد، والفتوى ــــ لا محالةَ ـــــ محتاجةٌ إلـى الاجتـهاد، ومن الـمعلوم شرعا أن من اجتـهد، فأصاب، فله أجران، أجرٌ علـى اجتـهاده، وأجر علـى إصابته الـحق، ومن اجتـهد، فأخطـأ، فله أجر واحد علـى اجتـهاده، وكـل فقيه يتبع فـي فتواه الـمراحل الـمعروفة فـي إصدار الفتوى، وهـي:
أ ـــــ دراسة الـمسألة، وتصورها، وهذا أمر لا بد منه، وهو ما يـتـم التعبيـر عنه بفقه الواقع.
ب ــــ البحث فـي القوانيـن، والنصوص الـمنظـمـة لها، وهو عملية تتم تبعا للتصـوُّر؛ إذ هـي من مكمِّـلاتـه.
ج ــــ تنـزيل الـحكم الشرعـي علـى النازلة، وهو الـمرحلة الأخيـرة من مراحل إنتاج الفتوى، وأي فتوى لا تتم عبـر هذه الـخطة لا يمكن أن تكون صـحيحة؛ لأن فساد الـمقدمات يلزم منه فساد النتائج، والقضية الشرعية مركبة، كما يقول الفقهاء.
ولكن هذا لا يمنع فـي الواقع من تفاوت فهم الفقهاء للمسألة، وتباين آرائـهم حولها، كما حدث مؤخرا فـي مسألة الـمشروع الذي طرحته الدولة فـي الآونة الأخيـرة، والـمتعلق بإسكـان الأساتذة الـمدرسيـن فـي مدراس التعليم الأساسـي، والثانوي، حيث انقـسم الفقهاء، والـمفتون فـي حكمه إلـى مذهبيـن، أحدهما يرى أنه لا مانع منه شرعا، وينطلق فـي رؤيتـه من النظر إلـى كون أعمال هذا الصندوق ليست من قبيل الـمعاوضات الـمحضة، بل هـي أشبه بعقود الإرفاق، والتبـرعات؛ لأن الدولة فـي الـحقيقة لا تأخذ من الـمدرس شيئا، بل تخصم من راتبه مقابل خدمة، تمنحه بموجبـها فرصة الـحصول علـى سكن، ومن أصـحاب هذا الرأي، وهذا الطرح الشيخ العلامة: محمد الـحسن ولد الددو، والفقيه القاضـي: الداه ولد أعمر طالب.
بينما يرى الطرف الثانـي منع هذا الصنـدوق، باعتبار أعماله من قبيل الـمعاوضات الـمحضة؛ جرَّاء ما تقتطعه الدولة من رواتب الـمدرسيـن مقابل خدمة الإسكـان، فيكون بـهذا من قبيل سلف جر نفعا، خاصة أن الدولة تشتـرط علـى الـمدرس اقتطاع الـمبالغ الـمحددة من راتبه قبل تأكيد استفادته من خدمة الإسكـان، وهذا فيه إلزام للمدرس بالدفع قبل حصوله علـى تعويض السكن، فينبغـي للدولة أن تبحث عن صفة أخرى بديلة لهذه الصفة الـممنوعة، تتمثل فـي دفع الـمبلغ للمدرس أوَّلا باعتباره تعويضا مستحقا، علـى أن يبدأ الاقتطاع من راتبه لاحقا حتــى يتم سداد الـمبلغ الذي دُفع له كـاملا غيـر منقوص، ولا زائد، ومن أصـحاب هذا الرأي العلامة الشيخ أحمد ولد النينـي.
ولكن ونحن أمام هذا التباين فـي هذه النازلة الشائكة، وفـي مثلها من الأمور الـمتعلقة بمشاريع عملاقة للدولة، ينبغـي للدولة قبل طرح هذا النوع من الـمشاريع، واستصدار مقررات، ونصوص قانونية منظمة له أن تطرحه علـى الـجهات الشـرعية الـمخولة بالإفتاء، والنظر فـي مثل هذا من الأمور الشائكة، كالـمجلس الأعلـى للفتوى والـمظالم، فهو الـجهة الرسمية الـمخوّلة فـي النظر فـي مثل هذه الـمسائل، وما يراه فيـها ينبغـي أن يكون مقدما علـى غيـره؛ لأنه يقوم علـى الاجتـهاد الـجماعـي، ويكتسب الصفة الرسمية، ولا يـنـبغـي لعالم، ولا فقيه، ولا متفقه الـخروج عليه، ولا نقض فتاواه دون وجه بيـن، ولا يفوتنـي فـي هذا السياق أن أقتـرح علـى الـجهات العليا فـي البلد إعادة هيكـلة الـمجلس الأعلـى للفتوى والـمظالم كـي يتسنَّــى له القيام بمهامه علـى أكمل وجه، وفـي هذا الصدد أقتـرح الأمور التالية:
أوَّلا: إشراك متخصصيـن فـي مجال القانون، والاقتصاد، والطب؛ كـي يضعوا تصورا ت واضـحة، كـلٌّ فـي مجال تخصصه، تنيـر الطريق للأعضاء من فقهاء الشريعة، وتعينـهم علـى بناء الأحكام الشـرعية.
ثانيا: استحداث فروع محلية للمجلس فـي الداخل فـي كل جهة من ربوع الوطن، فلكل جهة أعرافها، وأهل الـجهة من الفقهاء أدرى بأعراف جهاتـهم، ومعرفة العرف أمر لا غنـى عنه فـي الفتوى.
ثالثا: حظر الفتوى فـي الأمور العامة الرسمية التــي تتطلب نظرا واسعا علـى غيـر الـمجلس، وترك مساحات أخــرى للفقهاء الآخرين، مثل أحكـام العبادات، والأنكحة والـمعاملات بيـن الناس، وغيـرها مما يتعذر علـى الأفراد طرحه علـى الـمجلس، ويمكن إصـدار الفتوى فيه دون عنا كبيـر.
رابعا: عقد مؤتمرات علمية بالتعاون مع الـمؤسسات الأكـاديمية من أجل نقاش مثل هذا النوع من القضايا ذات الاختصاص الـمتعدد، ودعوة مختلف التخصصات لنقاشها كل من زاويته العلمية.

.jpg)


