قضية الشاعر والتراث من القضايا التي شغلت الباحث في الشعر والشعراء، الذين نظروا في عمومهم إلى علاقتهم بالتراث نظرة تسليم بأهمية هذا التراث وتضمينه في نتاجاتهم ونصوصهم، كمكوّن جوهري ومطلق يعبر محمّلا بسمات محدّدة تجعل للقصيدة هوية ومكانا وزمنا لا يتحرّك في الحاضر إلاّ بخلفية الماضي المحدّد بالرقعة الجغرافية وإرثها.
ولعلّ هذا الهوس لم يأت من فراغ، أو من تنظير مسبق يحفّزه الوعي الجمالي والفكري بالعودة إلى التراث، تمرّدا على الرومنطيقية والذاتية، كما هو شأن عدد من المثقفين الغربيين، وعلى رأسهم ت. س. إليوت الذي اتخذه الشعراء العرب مثالا على تمسّكهم بتراثهم العريق، بل من ظروف سياسية أيقظت الوعي العربي القومي إزاء الاستعمار والقضايا ذات الشأن العظيم في ضمير الأمة كالصراع العربي الإسرائيلي، ممّا عمّق الإحساس بالذات القومية المشتركة في مواجهة الآخر. وبذلك فالعودة إلى التراث لم تكن قضية شعرية بحتة، بل هي قضية رد فعل مباشر لواقع تاريخي وظروف سياسية مريرة، لم يجد أمام صدمتها العربي إلاّ أن يُبرز ذاته ككيان حيّ لا يجدُ صدّا لهذه التحوّلات المتسارعة في صراعه مع العدوّ، سوى التمسّك بهويته وجذوره في غياب أيّ تفوّق، وتلمّس حزين لهشاشته وانكساره وضعفه في الواقع الحاضر أمام قوّة أجنبية قاهرة.
من هنا كان سؤال التراث في الشعر سؤالا حتميا ومشروعا، وكان الجواب لا يستسيغ وجهة نظر مغايرة، لأنّ فكرة العودة إلى التراث بدت فكرة هوية ودفاعا عن هذه الهوية، فكرة مباشرة وجماهيرية وعاميّة لا تنظر إلى التراث إلاّ كلاّ مُختصرا في المقدّس الديني والعرقي. وكانت كلّ محاولة ذكية للفكاك عن هذه الفكرة الجمعية والعاطفية تعبيرا عن خيانة ومدعاة للتشكّك في نيّة ومعتقد ووطنية صاحبها.
لم تكن النظرة إلى التراث نظرة متأنيّة ومتأمّلة وواعية، بل كانت نظرة رد فعل مباشر من لاوعي جمعي غافل عن أحجية هذا التراث، الذي يستبطنه وغير متمكّن من أسباب المعرفة الموضوعية بشأنه.
الوعي الجمعي هو من فرض على القصيدة أن تتلمذ على يده، وألاّ تلامس سقفا أعلى للوعي الحرّ، بل أن تبخع ذاتها في تشرّب ثقافة الأمس وحيّزها المحدود الفكري والجغرافي. وإن أضعف إيمان تجاوزها لمنطقه وحدوده هذه، تمثّل في استحضار رموز أسطورية وثنية مفقودة الحلقة مربوطة بخيط واهن إليها وتضمينها في لعبته الكبيرة.
لم تكن القصيدة العربية قصيدة تراث تمت غربلته في مصفاة العقل النقدي، بل كانت قصيدة تراث عجولة استلهمت بلا جهد فكري هذا الانفعال الظرفي والآني. لم تكن في الأغلب الأعم باستثناءات قليلة جدا، سوى قصيدة اشتغال على مسودّة قصائد قديمة تنفّست عبق الأمس وغيّبت الحاضر في هذا السُّكر العلني، استلهمت طباعها واشتغلت على الذاكرة كعقل. الذاكرة التي أمالت الأسلوب الشعري بميولاتها، وفكّرت وتدبّرت في شؤون الشعر الصغيرة، والضيقة، كاتمة أنفاسه بثقلها رغم تيّار التحرّر الذي بسط يده على الشكل وتلكّأ أمام الجوهر أو سار ببطء شديد.
قصيدة اختصرت جماليات الشعر وإمكاناته المفتوحة في جانب ضيّق من الطرب والغنائية، فيما غيّبت حوّاس أخرى لتلقي الشّعر. ممّا جعل الثورة الشعرية الحقيقية المبنية على رؤية مغايرة للذات والعالم بعيدة عن الواقع. تلك الرؤية الباحثة في تراثها ليس عن أثر الغالب فيه بل وعن أثر المغلوب أيضا، عن أثر المطموس والمنسي والمُبعد، لكن الإنساني المُستلهم بفنيّة كبيرة، كما المنقّبة في التراث الكوني الرافد بالمعاني الإنسانية والفنيّة خارج رقعة جغرافية وحيدة تُملي على الشّعر وحيها المطلق.
بقي التراث الموظّفُ تراثا لم يخضع للتفكير العميق ولا للنقد ولا للمساءلة، لطبيعة المرحلة السالفة الذكر التي وسمت قصيدة التفعيلة، بينما تراجع سؤال التراث مع قصيدة النثر خطوة إلى الوراء تبعا لروح قصيدة النثر الفارقة، لم تعد الرموز الأسطورية ولا الدينية ولا التاريخية ولا جذوة القبلية أو القومية ولا الاطمئنان إلى اللغة الشعرية شيئا مقبولا للتوظيف، بل بلغ تطرفها إلى حدّ الادّعاء بالقطع المعرفي الإبستمولوجي مع السابق الذي لم يكن في واقع الأمر سوى هذا النتاج الهائل من الشعر والأدب العربي. ثمّة طبعا مغالاة، لكن ثمّة أيضا نيّة جادّة في قراءة مُغايرة، وبناء مختلف للعقل العربي في نظرته إلى الواقع والقصيدة.
من منطلقات كثيرة فكرية، تحرّرية، سياسية وانفعالية بجماليات مُختلفة كليّاً من ضفاف بعيدة في مناخ ثقافات عالمية أخرى. قلت، تراجع سؤال التراث أمام سؤال المستقبل، لكن التجارب الشعرية تلك، بعضها آثر تضمين التراث بكيفية مغايرة وفي مسالك جديدة ليس بطريقة الرد في صراعه مع الآخر هذه المرّة، بل إثبات هوية النص العربي، أمام سلطة النص الكوني، الذي لم تتأثر به الشعرية العربية إلاّ في جزء يسير منه. بفعل الترجمات اليتيمة التي تمت لأسماء شعرية عالمية محدودة. فيما أعاد البعض الآخر التشكيك في أهمية التراث بالمفهوم الشائع، ووضع مفهوم جديد له، وإعادة طرحه بأكثر من صيغة جديدة، لاسيما وأنّ القصيدة بدت غير مُلزمة إلاّ بما يحفّزها على الاشتغال على نفسها بطريقة تجعلها أكثر استيعابا للحركات الشعرية العالمية. فالتراث هنا صار تراثا كونيّا وغير قابل للتخندق في حيّز محدود جغرافيا وزمنيّا، بل صار تراثا آنيا مُنفَعلا به.. لا يلقي بالا من أي جهة أتت به الريح لتلقّح به نص الشاعر العربي. علاوة على مُساهمة مُوازية من البناء النقدي المتنامي للتراث العربي في رصده العقل العربي وأعطابه التي يشكل جزءا كبيرا منها بعض أوجه هذا التراث نفسه غير القادر على تمثل الليبرالية في معناها الأوسع، أو التخلص من معيقاته ومطباته الكثيرة.
يبقى سؤال التراث أمام شعراء قصيدة النثر على العموم سؤالا إشكاليا معرفيا، وأحيانا مثيرا للصدمة في تصريحات بعض الشعراء.. إلاّ أنه على مستوى القصيدة قلّما تُنتج نصوص بتلك الصدمة، وحين تُنتج خارج بُنية التلقي العربية المشبعة بإرثها الثقيل تلقى سوء فهم شعري حتى ولو قوبلت بطريقة لائقة.
*شاعر وكاتب مغربي
منير الإدريسي*