كان الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر واحدا من كبار المفكرين في القرن العشرين الذين تناولوا أهمية الشعر والكلمة في الإفصاح عن معنى الوجود، وهو الشيء الذي لم تتمكن منه حتى الفلسفة التي تناست هذا الموضوع وأهميته لصالح هيمنة الموجود، أي هيمنة الإنسان الواثق من أنه سيتمكن من إنقاذ نفسه بواسطة المشروع التقني.
إن الشعر إذن هو المجال الذي يحضن الوجود ويعبر من خلاله الإنسان عن كينونته، في ضوء هذه المقدمة نطرح السؤالين الآتيين:ـ أي بعد جمالي وروحي ينطوي عليه عمل عبد السلام دخان؟ ـ كيف يمكن أن تفهم هذا الشد والجذب بين البعث الميتافيزيقي والواقعي في عمله الشعري «فقدان المناعة».
إن أول ما يصادفنا هو أن الشاعر يحاول إعادة استعمال الكلمات ضمن منحى مغاير لما اعتدناه وهي مسألة تبدأ من العنوان ذاته ـ وهي التقنية التي تعرف بالانزياح يكفي أن تتأمل بعض المقاطع للدلالة إلى أن الشاعر يحاول أن يخرج من اللغة التكرارية الوصفية، نحو اللغة الإيحائية مثلا: الشوارع تتوهج، والموج له عيون، والمطر له يد، والريح تمتلك حفونا، والماء ضجر، والدروب هباء إلى غير ذلك من الاستعمال الخاص للغة. وعملية الانزياح هذه خلقت لدى الشاعر كثافة دلالية كبيرة يصعب معها فرض قراءة واحدة على عمله، وكما يشير رولان بارث فإنه حينما يتعلق الأمر بالأدب والشعر خصوصا فإن النقد يتحول إلى مضاعفة للنص يدل أن يدعي الإمساك بحقيقته. وكيفما كان الأمر يمكن القول بأن القول الشعري عند أستاذنا مرتبط ببحث حقيقة .الوجود وحقيقة الذات مع إيمانه أن اللغة هي ملجأه الوحيد وخلاصة الذي سيمكنه من تجاوز عالم الابتذال؛ هنا يبرز الشعر كثر حال من أجل البحث عن عالم آخر. فالشاعر يعرف وجهته وقصده يقول: لا أمضي إلا حيث أريد، ولكن مع ذلك هل هذه الوجهة وهذا العالم الذي بقصده واضحة معالمه وتضاريسه. إن اللغة الشعرية كما يذكرنا هيدغر دائما تجعلنا منفتحين على المجهول مرتبطين بهذا الذي ينسحب إلى الوراء.إن هذا الموقف المتلبس المتمثل في الرغبة في الانفصال والالتحاق بعالم آخر، وهي الرغبة التي تسمى فلسفيا بالتعالي تواجه لدى الشاعر بإخفاق الانكسار، ربما بسبب وعيه الدفين بضرورة الارتباط بالواقع، أو ربما أيضا بسبب التخوف من هذا المجهول الذي يمكن أن يلاقيه في الآفاق والذي لن يكون شيئا آخر قبر الموت.
يقول الشاعر:أحاول فتح باب الارتواء/أدخل دروبها القديمة/أكتب على جدرانها تاريخ الشمس/ألوان أيامها بمجد البهاء/ لكني عبثا/ هاأنذا ها هنا/خشبة منقوشة بالماء/أو هدية لعري المساء.
تلك هي البنية العامة المهيمنة على العمل الشعري ككل، العلاقة بين الانفتاح والواقع، التعالي والسقوط، الأرض والسماء… إنها بنية تظل منشدة إلى بعد ميتافيزيقي كما اشرنا سابقا وهي حركة تعبر عن التوتر القلق بين الرغبة في معانقة الآفاق والارتباط والآن ذاته ببعد واقعي: أولا: البعد الميتافيزيقي، حيث تلاقي الموت وهوالتيمة الأساسية المهيمنة على العمل ككل، ثم هناك تأمل الغياب وملامسة تخوم الوجود، والقاموس المفرداتي الذي استعمله الشاعر للتعبير عن هذا البعد يمكن اختصاره فيما يلي: الاحتراق (احترقت أرصفة الحلم)، الفراغ (الكرسي الفارغ قبالة البحر)، المقبرة (المقبرة ظل كبير)، المرض (الممرضة الفاتنة ترسم جسدي)، الغياب (في جسدي الأجوف تورق زهور الغياب)، العدم (اترك العمر يعدو وحيدا صوب مرافئ العدم)، الصمت (أنكر شبحي بشحوب الصمت)، التيه (خذيني إلى سفوح البرابرة)، البياض (كإشارة على الموت)، الموت (غطوا وجهي بثوب الفجر و إنا لله وإنا إليه راجعون).
إن عملية الإحساس بالموت ترتبط عند شاعرنا بإحساس خاص بالذات وبهبوط إلى هذه الأنا الطفولية التي مازالت تحافظ على براءة رؤية الأشياء. ويستهل الشاعر عملية استبار الذات هذه بإحساسه بجسده وبحضوره الفيزيائي الواقعي حيث يتحول إلى محض ظل يقول:
أدرت عيني إلى الوراء/ لم أر غير العتمة/ وضعت يدي فوق تجاعيد اليد/ فأدركت أني ظل بلا جسد.
إن عملية الهبوط إلى أقاصي النفس تدل على أن الشاعر لا يريد أن يعيش خارج ذاته منفصلا عن كيانه، وأن يكون مثله مثل الآخرين فرد داخل المجموع بلا هوية، لذلك فعملية الإحساس بتحولات الجسد تيمة تتردد داخل هذه المجموعة يقول مثلا:
« العالم مقبرة اسمنت/ الظل حصان يجر عربة الحياة/ الحياة في المدينة/ المدينة في الرتابة/ الرتابة في الغرف/ والغرف في جسدي الزجاجي».وفي قصائد أخرى تجد»أنا الدخان الوثني
أنا اليتيم المنتفخ بالبرد/أنا الدمعة الراقدة».
إن السمة الأساسية المهيمنة على «فقدان المناعة» هي الموت، وهي سمة نجدها حاضرة في الشعر المعاصر لدى عدد من الشعراء الكبار مثل خليل حاوي الشاعر اللبناني الذي ارتبط الشعر عنده بالموت والانبعاث وفجيعة السقوط.
سقوط الأمة العربية في الركود الحضاري، و بدر شاكر السياب الذي كان الموت قضيته الأولى وقد عبر عنه أجمل تعبير في قصيدته الخالدة أنشودة المطر.
وإذا أردنا أن نوسع الدائرة أكثر من خلال نماذج الشعر الغربي نجد الشاعر الإسباني الكبير غارسيا لوركا، و سواء في الشرق أو في الغرب فقد شكل الموت رمزا للتعبير عن انحطاط الواقع وترديه، وهو في نفس الوقت حقيقة ميتافيزيقية جعلت الإنسان يقف حائرا أمامها. إلا أن ما يميز حضور تيمة الموت في الشعر المعاصر هو ارتباطها بنبوءة المستقبل حيث يكشف الشاعر عما يخفيه القدر ليس فقط بوصفه فردا له ولكن للأمة وللبشرية جمعاء (لنتذكر هنا مثلا رمزية زرقاء اليمامة لأمل دنقل). ولعل وطأة هذا البعد هو ما جعل شاعرنا ذ. عبد السلام دخان لا يكتفي بالبعد الميتافيزيقي بل ينفتح على بعد آخر هو البعد الواقعي.
ثانيا: البعد الواقعي: حيث نلاقي الواقع بكل صلابته ويبرز الشاعر كناقد لظواهر الحياة، متيقظ لما يدور حوله، متنبها لهذا الانجراف الذي تؤول إليه حياة الإنسان المعاصر فالشعر كما يعرفه أوغتافيو باث هو «شهادة للحواس شهادة صادقة لأن صوره ملموسة مرئية ومسموعة» لكنه يضيف أيضا أن ما ترينا إياه القصيدة لا تراه بالعين عادة بل بـ» أعين الروح».
اللهب المزدوج لأوغتافيو بات ترجمة المهدي أخريف مطابع المعرفة العامة طبعة 1998 ص 09.
في ضوء هذه الملاحظة يمكن تلخيص القاموس المفرداتي الذي عبر من خلاله الشاعر عن هذا البعد الميتافيزيقي كما يلي: الملل (مللت ارتياد مقهى روزاليس وشرب النيسكافيه)، الوعي الشخصي للمثقف. (المثقف العضوي الأنيق طبعا)، (يحث الآخرين على مناهضة العولمة ويخبرني سرا بمزايا سيارة الفورد)، الصحافة الفارغة (الصحافة المفقودة بين وكالات الأنباء)، الشك حتى في حركات الاحتجاج (لا تغرينيني اضطرابات عمال المخابز) (الرفاق المدججين بأحلام لينين)، نقد الرأسمالية وتلاعبات البورصة (بينما القراصنة يلعبون الورق في حانات دول سترميت)، إشارة إلى ظاهرة المعطلين (سلاما للمعطلين عن الحلم المنتشين بعطر نوسطالجيا بعطر الوطن)، الإشارة إلى حمل النبوة للمدينة (ألون قرميد أوبيدوم نوفوم بنبوءات القمر)، الإشارة إلى البعد الرؤيوي (صنعت عينا لترى عالما فيه متسع لاقتناص سكون عذري)، (أنا الحامل لأسرار المخاض أرى أعمدة دخان).
هذه الواقعية ذات البعد السوريالي تجعل شاعرنا مشدودا إلى حب العالم والتعاطف مع معاناة الناس يقول: (أحب الوطن في عيون الأطفال /أحب التلميذة وهي تحمل عبء الساسة على كتفيها الناعمتين / أحب المعلمة المنفية في اقصى الجبل).
غير أن هذا الحب مع ذلك يظل موقفا حائرا متشككا من امكانية انتصاره على العدم والموت يقول الشاعر: فأنا وان أخضر شاهدي/ لن أعود/ أبدا لن أعود.
وفي مقطع آخر أترك العمر يعدو وحيدا صوب مرافئ العدم وفي آخر الديوان نجد الخاتمة الشعرية: غطو وجهي بثوب الفجر وإنا لله وإنا إليه راجعون.
إن هذا الشد والجذب بين الحياة والموت بين الميتافيزيقي والواقعي حينما يعبر عن القلق الدفين لدى الشاعر بهشاشة الوجود، وعندما تتحول السماء الى مطرقة أسماء والأرض الى سندان فإن كل تعال سيكون مستحيلا، وهنا تكمن قوة ديوان فقدان المناعة من خلال قلقه وحيرته هذه فالشاعر عبد السلام دخان يريد أن ينبهنا الى التفاؤل الساذج المرتبط بكون كل الأشياء تسير نحو الأحسن ومن أن الوضع البشري يوجد في أفضل حالاته كما يردد غالبا.
إن الأنا عند هيدغر هي داما قلقة على وجودها ومصيرها، لكنها من خلال قلقها هذا ترسم لنفسها سبل خلاصها، ولعل الشعر أحد هذه المجالات التي يرتقي فيها الإنسان بكينونة، أستاذنا عبد السلام دخان استطاع أن يرفع قلقه وهواجسه اتجاه الموت والحياة معا إلى مستوى جمالي رفيع، وما هو أكيد هو أننا مع ديوان فقدان المناعة أمام شاعر يبعدنا عن ماكان جان كوهن يسميهم في كتابه « بنية اللغة الشعرية» بشعراء يوم الأحد.
*باحث في الفلسفة الشرقية والفكر الفلسفي المعاصر
[email protected]
محمد الفاهم