ما زالت هذه المدينة العظيمة تبهرني كلما حللت بها زائرا أو مرافقا لطلابي. وكلما ظننت أنني أعرفها وأعرف معالمها العديدة اكتشفت أنني لا أعرف إلا النزر اليسير، مما يذكرني بقول أبي نواس عندما ذكّر واصل بن عطاء الذي ادعى العلم كله «حفظت شيئا وغابت عنك أشياء»، وذلك لتنوع تراثها وجمال طبيعتها وعراقة تاريخها وتعدد إنجازاتها. فمن اللحظة التي تطأ قدماي أرض مطار أتاتورك الحديث، حتى تبدأ المدينة تفتح صفحاتها لي لأقرأ بعض القبسات في العمران والجمال والسياسة والحكم الراشد الذي يخشى مؤشرات الرأي العام والمعارضة الحقيقية فيصوب المسيرة أكثر ويراكم الإنجازات ويفتح أبوابه للفارين من أنظمة القهر والموت من دول الجوار، ويتصالح مع أطياف شعبه عن طريق التنمية والتمكين والاحتواء. تعلو وجهك بسمة سخرية على أولئك الكتاب العرب الذين يدافعون عن الطغاة العرب من مواقع يسارية أو قومجية أو طائفية، ويصورون تركيا على أنها انهارت أو تكاد بسبب أخطاء أردوغان وخطاياه. آخذ مصورتي كل صباح وأقفز في القطارات والحافلات والسيارات أشرق وأغرب في عرض المدينة وطولها وأتجول في مدنها المجاورة وشواطئ بوسفورها الفاتح ضفتيه للمراكب التي تعبره شمالا وجنوبا، وألتقط بعض الصور لأشارك القراء الأعزاء بما أستطيع اختصاره في مقال قصير.
إفطار جماعي ومفاجأة أردوغان
مساء السبت أول أيام رمضان في تركيا التي تتبع مقولة العلم لا تنتظر من يقسم إنه رأى الهلال بعينيه، أقام مصطفى ديمير، أحد أغنياء المدينة والوزير السابق في حكومة أردوغان والطامح إلى موقع قيادي في المستقبل، مأدبة إفطار جماعية في ساحة المسجد الأزرق في منطقة السلطان أحمد، التي تتسع لمئات الألوف بعد ترميمها ورصفها بالحجارة الحمراء الصغيرة وتزيينها بالنوافير والتماثيل والمسارح المفتوحة والمساحات الخضراء. جلسنا بين الجموع وانتظرنا مثل غيرنا إطلاق مدفع رمضان الرابض قربنا إحياء لتراث إسلامي عريق. نحاول أن نتحدث مع الناس فتعيينا اللغة. وعندما وجدت شابة تتحدث قليلا من الإنكليزية بدأت تشكر الحكومة وأردوغان، لانه عمل الكثير لتركيا وإسطنبول. بدأت فرق المنشدين تغني أغاني رمضانية نفهم بعض مقطوعاتها الدينية، ثم غنى شاب أغنية أبكت الحضور فهمنا منها كلمات مثل مكة والمدينة، وحضرة سيدنا محمد، ثم يردد بشكل رخيم «صلى الله عليه وسلم» ويردد الحاضرون هذه اللازمة. قبل الإفطار بدقائق شاهدنا حركة غير عادية وسمعنا هرجا ومرجا شديدين، وإذا بالمذيع يعلن وصول رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، فيضج الحضور بالتصفيق. يقف أمام الجموع ويهنئهم بحلول رمضان، ثم يلقي كلمة قصيرة تتردد فيها عبارات الدعاء، فيدعو الله لنصرة تركيا ثم تمكنا من فهم كلمات رددهها «إن شاء الله يا ربي» ثم توالت كلمات سوريا وبعدها العراق وغزة وفلسطين ومصر وليبيا.. لا شك أنه كان يدعو لهذه الدول الغارقة في مشاكلها الداخلية أو الاحتلال الخارجي بالتوفيق والتعافي. قلت في نفسي هل سيأتي يوم نرى فيه زعيما عربيا يقف بكل بساطة وبحراسة بسيطة وبشكل مفاجئ أمام مئات الألوف من شعبه. لو لم يكن يجسد الإرادة الشعبية أكان يمكن أن يقف بمثل هذه البساطة؟ لو وصل السلطة عن طريق الانقلاب أو التوريث الجمهوملكي أو الدبابة الأمريكية أكان يجرؤ على الظهور؟
الإسلام الحضاري وحرية الدين والمعتقد
إذا زرت مساجد المدينة خاصة في رمضان وعددها 3085 مسجدا ظننت أن كل إسطنبول معتكفة في المساجد، وإذا خرجت إلى شوارعها العريضة والضيقة وبازاراتها العريقة ظننت أن هذا البلد لا علاقة له برمضان ولا الإسلام. المطاعم والمقاهي تكاد تضيق بزبائنها من مختلف الملل والنِحَل، والفتيات السافرات بقليل من الملابس يسرن جنبا إلى جنب مع التركيات المحجبات بطريقة جميلة. الأوروبيات يجلن في الشوارع ببناطيلهن القصيرة إلى جانب السعوديات الملفوفات بعباءات سوداء من قمة الرأس إلى أخمص القدمين بما في ذلك البرقع. إنها الحرية الشخصية وكم هو جميل أن تصان الحرية الشخصية تماما إذا لم تتطاول على حرية الآخرين. من أراد أن يصوم أو يصلي أو يتهجد أو يعتكف فله ذلك، على ألا يتدخل فيمن أراد ألا يصوم ولا يصلي. هذا هو سر قوة تركيا. الوطن للجميع بغض النظر عن معتقداتهم وأعراقهم وطوائفهم، والحرية مكفولة فلا أحد يعتدي على حرية الآخر. قلت لزوجتي في أحد الأسواق لو سارت تلك الفتاة في شوارع القاهرة لتقاسمها المتحرشون بينهم كالفريسة، فالقهر الديني والسياسي والمجتمعي لا يولد إلا الفوضى والعنف والمسلكية اللاحضارية. لا أحد هنا يتدخل ولا أحد ينصب نفسه قيما على الدين ولا ممثلا لله على الأرض. العبادة شأن شخصي ليست مسؤولية الدولة ولا الشرطة ولا المطوعين ولا وزارة الأوقاف. ولهذا عاد الأتراك إلى الإسلام بطريقة تدريجية ناعمة، بعد أن أبعدهم أتاتورك عن الإسلام بطريقة قسرية فجة. عاد الشعب التركي بغالبيته إلى اختيار الإسلام كهوية وطنية لتركيا الحديثة التي تجمع بين العلمانية كنظام حكم والوطنية التركية المستندة إلى تراث إسلامي كهوية. لم يعد إلى الإسلام المتعصب الكاره للآخر المكفر لكل من يختلف مع طبعته الضيقة العنصرية الحاقدة. فانظروا كم حقق حزب العدالة والتنمية في اثنتي عشرة سنة تسلم فيها قيادة البلاد، وقارنوا تلك الإنجازات مع دول الجوار. لقد انتقلت تركيا الآن إلى مصاف الدول الكبرى سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وسياحيا، حيث تحتل المرتبة السادسة عشرة في السلم الاقتصادي العالمي. بينما يدمر الطغاة العرب ما أنجز من قبل ليعود بلد كالعراق أو سوريا أو مصر أو ليبيا أو اليمن إلى أدنى درجات السلم الاقتصادي، ومؤشرات التنمية والحكم الفاسد وأقرب إلى الدولة الفاشلة. إن أكثر ما يقلق تركيا الآن حقيقة هو الوضع في سوريا والعراق وإيران ومصر. فما يجري في تلك الدول ينعكس سلبا أو إيجابا على تركيا التي كانت تحلم في بدايات الربيع العربي أن الوقت قد حان لتحول تلك الدول من الأنظمة السلطوية الفاسدة إلى دول مستقرة ديمقراطيا تلعب تركيا دور»واسطة العقد» ونموذجا يحتذى للتصالح بين الإسلام والديمقراطية.
السوريون في كل مكان
أكثر ما يثير انتباه الزائر هو كثرة العرب في شوارع إسطنبول. لقد تحولت إسطنبول إلى «مربط خيل العرب» بعد لندن. وهذه خطوة جيدة في الاتجاه الصحيح. العرب في الحوانيت والبازارات والحافلات السياحية والمراكب والمعالم التاريخية والأحياء الشعبية والمقاهي… كل عرب الخليح تقريبا وصلوا هنا بعد إغلاق بيروت ودمشق وإلى حد ما القاهرة. لكن اللافت للنظر أن السوريين هم الأكثر انتشارا من بين العرب. لم يأتوا سياحة ولا استجماما، بل قلعوا من بيوتهم ووطنهم وعزتهم وكرامتهم في وطنهم وشردوا في أصقاع الأرض. كثير من العمال العاديين من السوريين، بل وتنتشر ظاهرة تقطع القلب في شوارع إسطنبول عندما تمر من جانب امرأة تحتضن طفلا أو طفلين وتطلب صدقة، معلنة أنها سورية معدومة قتل زوجها، ولهجتها تصادق على ما تقول.
لقد دخل إلى تركيا أكثر من مليون سوري. اختار ربعهم أو أقل أن يبقوا في مخيمات اللجوء قرب الحدود، بينما انتشر الباقون في أنحاء البلاد. وللعلم فالسوري يدخل تركيا بدون تأشيرة ويعامل معاملة التركي في السكن والعمل والرعاية الصحية المجانية والتعليم الحكومي المجاني والقيام بمشاريع اقتصادية واستثمارية. حتى مخيمات اللجوء بنيت بطريقة حديثة تضمن لكل عائلة بيتا ومياها جارية ودورات صرف صحي ومدارس مجانية وملاعب للأطفال وبرامج ترفيه وعيادات طبية بدون أن تتلقى أي مساعدات خارجية.
التقيت بأصدقاء سوريين فروا من دمشق إلى بيروت إلى إسطنبول وينتظرون تأشيرة للإقامة في ألمانيا. بدأت تحدثني صديقة قديمة عما شاهدت بعينيها في حي القابون بدمشق والقصف العشوائي وخطف الشباب وتعذيبهم حتى الموت. «جاري الشاب أحمد المصاب بالسرطان وكنت أشفق عليه من مرض يأكله حيا، خطف من بيته وبعد أيام ظهرت صورته على التلفزيون السوري وهو يعترف بأنه وراء السيارت المفخخة»، وقالت إنه إنسان لا يستطيع أن يمشي معتدلا. فأي فضيحة أكبر من هذه؟ أي اعتراف؟ «إنها حرب طائفية بامتياز ومن لا يصدق سيأتيه يوم يصدق عندما يتم اجتـثاث الوجود أو النفوذ العربي السني في سوريا»، قالت والدموع تنهمر من عينيها ونحن في ساحة مسجد السليمانية العظيم الذي اتفقنا على أن يكون مكان لقائنا العابر.
تركيا والنظام السياسي الجديد
في لقاء مع بعض الصحافيين الأتراك والعرب من بينهم مراسلون لـ»القدس العربي» تحدثنا طويلا عن وضع تركيا ومستقبلها، خاصة في ضوء ترشيح حزب العدالة والتنمية لرئيسه رجب طيب أردوغان إلى منصب رئيس الجمهورية في مهرجان في أنقرة كان أقرب إلى مراسم التنصيب، وكانت كلمة أردوغان أقرب إلى خطاب الفوز حيث وعد أن يكون رئيسا لكل الأتراك الذين صوتوا معه وأولئك الذين صوتوا ضده.
رئيس الوزراء التركي يحلم بتحويل تركيا إلى عاشر أهم دولة اقتصادية في العالم. لقد أنجزالكثير، لكن أمامه عددا من التحديات. لقد أنجز مؤخرا (29 تشرين الأول/أكتوبر 2013) نفق مرمرة البحري للقطارات الخفيفة، الذي يربط ليس بين الشقين الأوروبي والآسيوي لاسطنبول فحسب، بل بين قارتي آسيا وأفريقيا ليسهل حركة مرور يومية تشمل الملايين. إنه تحقيق لحلم عثماني قديم طرحه لأول مرة السلطان عبد المجيد عام 1860 ونام أكثر من قرن ونصف القرن من الزمان ليتحقق على يدي أردوغان.
ويستعد الآن لإنــجـــاز المطار الثالــث (بعد أتاتورك وصبيحة) الذي سيكون أكبر مطار في العالم بقدرة استيعاب تقدر بـ150 مليون مسافر سنويا، ويحول إسطنبول إلى أكبر مركز للنقل والتوزيع بين آسيا وأوروبا، وبالتالي «سيلطش» كثيرا من المداخيل من مطارات فرانكفورت وأمستردام وباريس» ويحولها إلى مداخيل لبلاده.
إن فوز أردوغان لمنصب الرئيس لفترة رئاسية لخمس سنين يوم 10 آب/أغسطس القادم شبه مؤكد ضد مرشحين ضعيفين: مرشح المعارضة الليبرالية والعلمانية أكمل الدين إحسان أوغلو الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي، والمرشح عن الأحزاب الكردية المعارضة صلاح الدين دميرطاش. القلق الحقيقي الذي يعيشه أردوغان وحزب العدالة والتنمية، كما قال لي الصحافيون، هو التطورات الحاصلة في المنطقة العربية، خاصة سوريا والعراق. فهو من جهة لا يمكن أن يقف إلى جانب حركة إرهابية كداعش التي خطفت طاقم القنصلية التركي وعددهم 43 شخصا، هذا عدا عن سائقي الشاحنات التركية المخطوفين، ومن جهة أخرى لا يريد أن يرى نفوذا طاغيا لملالي إيران والميليشيات الطائفية التي تحشد قواها في العراق وإيران وسوريا، وقد تقوم بتفريغ العراق وسوريا من المكون السني لينتقلوا بعدها لزعزعة الأمن التركي عن طريق الطائفة العلوية الكبيرة في جنوب البلاد والطائفة الكردية الكبيرة في ديار بكر، التي وعدها أردوغان في خطابه يوم الثلاثاء الماضي بمزيد من التمكين والتطوير والاستمرار في مسيرة السلام والمصالحة. أما وجع الرأس الذي يسببه له المعارض التركي من الخارج فتح الله غولن، وتنظيمه المسمى «خدمة» والمتغلغل داخل صفوف الشرطة والقضاء، فستكون مهمة اجتثاثه بالقانون على رأس أولويات اردوغان كرئيس للجمهورية.
كان أردوغان يحلم بعالم عربي إسلامي تتبوأ فيه تركيا مركز القيادة، لكنه عاد وتواضع كثيرا بعدما جرى من خيبات في دول الربيع العربي. إنه الآن يحلم بالاحتفال بالعيد المئوي للجمهورية التركية في 2023 وتركيا بلد عظيم يحتل أعلى المراتب في ميزان التنمية والسلم الداخلي والأمن والحرية والاستقرار الديمقراطي. إنه حلم قابل للتحقيق كما تشير كافة الدلائل.
٭ أستاذ جامعي وكاتب عربي
مقيم في نيويورك
د. عبد الحميد صيام