النصوص ذات البعد الفني والإنساني تفرض نفسها والباقي يموت

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
خميس, 2015-03-05 12:36

.. مثل ساحر متمكّن يقود المحسن بن هنية القارئ في كل رواية من رواياته، يقوده سيرا حيناً وركضا في الكثير من الأحيان. نتابع الكلمات والأحداث بلهفة الفضول والحيرة ونلتهم الكلمات التهاما، ومن ثم لا نملك فرصة للهرب من فتنة سرده، منذ أول جملة في الرواية أو القصة، حتى آخر نقطة في آخر صفحة. لا نستطيع أن نهرب من فتنة حكاياته المتداخلة، حيث تتحول اللغة إلى مجرد أداة، وتصبح بالتالي مثل إزميل النحات أو فرشاة الرسام، ولا تكون محور الرواية، مثلما تعودنا من بعض الكتاب العرب الذين يهتمون باللغة وزركشتها على حساب الحكاية وأحداث الرواية. 
سواء في القصة أو الرواية تكشف لنا أعمال المبدع المحسن بن هنية، الكاتب التونسي أصيل جهة سيدي بوزيد (مهد الثورة التونسية المجيدة) عن مدى قدرته على الانتفاع من معارفه الأدبية والثقافية والفكرية، بدون أن يسقط في نرجسية «ذات الكاتب»، التي تقول: «أنا موجود بالقوة». وإنما يستثمر كل ذخائره مراعيا حدود الجنس الأدبي، ومحافظا على الحس الجمالي والأثر الفني للعمل الأدبي. 
التقيناه في حوار خاطف وكان لنا معه هذا الحديث العذب:

■ شهد العالم العربي ميلاد جيل جديد من الروائيين، فهل يمكن اعتبارهم امتدادا لروائيي الجيل السابق من حيث الاستلهام وطرائق السرد؟ 
□ في الوطن العربي ميراث في غاية الأهمية، أنشأه الرعيل الأول وفرض به النوع الروائي وأعطاه كل مبررات الوجود، وعلى رأس هؤلاء نجيب محفوظ وحنا مينة وعبد الرحمن منيف وغيرهم. أما الجيل الثاني، فقد أضاف الكثير لكي يرسخ هذا النوع ويصبح رديفا لما ينشأ عبر العالم ليس أقل وليس أكثر، ومنح الرواية فرصة لكي تخرج من يقينيات تاريخ التحرر العربي إلى الانغماس في دائرة الحاضر العربي من ناحية الحياة والإدراك الروائي، كنبيل سليمان وغالب هلسا والطاهر وطّار وغيرهم من الروائيين الكبار. 
وتعاقبت الأجيال حتى وصلنا إلى سؤال الحاضر، وهو الذي يشغل الوطن العربي كحالة داخلية، كالثورات أو ما سمي بالربيع العربي، الذي أصبح جزءا من انشغالات النص الإبداعي، كشخصية الديكتاتور التي دمرت النسيج العربي، وجعلت منه مجتمعات لها تقاطعات كثيرة، وحتى عندما يحضر الاختلاف فهو حالة تنوعية وليس تمزقية. وهنا أود الإشارة إلى أن الرواية مست المعضلات التي تعيشها المجتمعات العربية، كالصراعات الطائفية والعنصرية والتاريخية وحتى اللغوية في بعض النصوص، وتناولت قضايا شائكة ومتداخلة، وشكلّت بالتالي مادة أدبية للجيل الجديد، الذي انتقل من المستوى العربي إلى الإنساني، لأن الرواية في نهاية المطاف بوصفها جنسا موسعا جعلت من القضية الإنسانية مدار منجزها الأدبي، كالحب والكراهية والضغينة والحروب والظلم، فخرجت بنصوصها من دائرة السياسي لدائرة الإنساني، بحيث من يقرؤها في بعض نماذجها يشعر بأن ما يحدث عندنا لا يختلف عمّا يحدث في اليابان أو نيكاراغوا أو الصين أو أوروبا، رغم الفوارق الحضارية. لذا أنا متفائل بما تصنعه اليوم الرواية العربية التي خرجت من ضيق الرؤية إلى اتساعها، فهناك الكثير من النصوص التي بالإمكان وضعها أمام أي نص عالمي وفرض نفسها بسهولة، لأن التقنيات المستعملة أو القضايا المندرجة روائيا لا تختلف كثيرا عما هو موجود عبر العالم. 
■ البعض يرى أننا نشهد فائضا في التأليف الروائي، فما رأيك؟ 
□ يجب أن نقبل أن دائرة التعليم في الوطن العربي توسعت مهما كانت رؤيتنا حول هذا التكوين والتعليم، كما أن الترجمات زادت كثيرا وفتح التعليم آفاق الناس على نصوص عالمية أخرى، يضاف إلى ذلك وسائل التواصل الاجتماعي التي دفعت الكتابة للمزيد من «الدمقرطة»، أي أصبح بإمكان أي شخص أن يكتب وينشر ويحكم عليه أصدقاؤه مما سهل الفعل الكتابي. هذا الأمر نتج عنه إغراق السوق بالنصوص الشعرية والروائية وغيرهما. شخصيا لست منشغلا بهذا العدد الضخم، لأنني أؤمن بأن النصوص العالية التي تندرج ضمن البعد الفني والإنساني تفرض نفسها بالضرورة على القراء والباقي يموت، لكن في ظل غياب المؤسسة النقدية يمكن لهذا التكدّس الأدبي أن يحرم بعض النصوص المتميزة من الخروج والتفرد، ومع ذلك مازلت مؤمنا بأن النص الكبير يظل كبيرا. فالمؤسسة الأدبية الفرنسية تصدر سنويا حوالي سبعمئة رواية، لا يبقى منها سوى عشرين أو ثلاثين في أحسن الأحوال، ولهذا أقول إن البقاء للأصلح والنصوص الكبيرة ستجد طريقها. هذه الكثافة لم تمنع أسماء كالسوري خالد خليفة والكويتي سعود السنعوسي والجزائري سمير قاسمي وغيرهم من الكتاب الشباب من الظهور وفرض أنفسهم إبداعيا. 
■ هناك خيط رفيع بين الروائي والمؤرخ، كيف مارست مهمتك الإبداعية بدون الوقوع في فخ التأريخ؟ 
□ أود القول إن المؤرخ والكاتب يشتغلان على الحقل والدوائر نفسيهما في الظاهر، أي لا فرق في عملهما، لكنه لا أحد يستطيع أن يكون الآخر، فلا المؤرخ هو الكاتب ولا الكاتب هو المؤرخ، ولكل مساحته. فالأول يشتغل في حدود الإطلاقية واليقينية، بينما الكاتب يشتغل في حدود النسبية والتساؤل، أي أن الفرق بينهما هو عنصر الحرية عند المبدع، المشروطة بالعالم الروائي والقصصي والحكائي الذي يكوّنه حول حقيقة قد تبدو تاريخية لكنها ليست كذلك بالمعنى المتعارف عليه، لأنها خضعت للسؤال المتعلق بالرواية واندرجت في مسارات أدبية غيرت الكثير من هويتها التاريخية، حتى لو احتفظت بالعنصر الأساسي في الحقيقة التاريخية من حيث هي مادته، فهي تقبل الافتراضات والتأويلات والأسئلة الكثيرة، بينما الحرية عند المؤرخ مشروطة بما تلقاه من حقائق. والخيط الرفيع الموجود بين الروائي والمؤرخ هو العقل الحر، الذي يتضاءل كثيرا عند المؤرخ بينما يتضخم ويكبر عند الروائي. 
■ ألا تشعر بأنّ العلاقات والتبادل الأدبي ضعيف بين المغرب العربي والأقطار العربية الأخرى، خصوصا في الشرق العربي. ما أسباب ذلك كيف يمكن معالجة هذه المشكلة؟ 
□ أظن أن السياسة هي المسؤولة عن هذا الوضع الكارثي، فأنانية السياسيين تجعل أي تقارب غير ممكن ما بين الأدباء، فللأسف مازالت الدول العربية تناضل من أجل استقرار أوضاعها السياسية، وهذا ما يجعل التواصل بين الشعوب في حدوده الأدنى، فرغم المحاولات النبيلة في هذا الاتجاه، غير أنها لا تؤتي أكلها كما هو مطلوب لأن المشاكل السياسية العالقة تحول دون ذلك. 
■ نسيج نصك غني. يتعدد الرواة ومستويات السرد. كيف تنظر إلى التجريب ووظيفته وتبعاته؟ 
□ في – تقديري- الرواية تحمل أدواتها معها، ما يسمونه تجريباً ينبغي أن ينبع من رائحة النص وشخوصه، بل ينبغي أن توفر الحكاية سبباً للابتكارات فيها، وهكذا كانت نصوص التراث العربي، فالشكل التقني لألف ليلة وليلة يرتبط بظروف الرواة دائماً، والطبيعة الشخصية لأبي الفتح الإسكندري في مقامات الهمذاني يمنح سبباً لتكرار ظهورها، والفضاء المتخيل في «رسالة الغفران» أعطى شكلاً منسجماً لتنقلات النص، ويبقى التجريب مفهوماً مضللاً في الكتابة الجديدة، فلم يعد شرطه تخليق عوالم خيالية، كما تقول قواميس النقّاد، لكنه مضمار تقديم علاقات حديثة مع الحياة المسرودة، وهذا شرط مفصلي يتعلق بنموذجنا العربي، فقد حدث من التفريط والتهويم والنسخ الشكلي ما ضيّع الواقعة وطرح الجزء التوثيقي في السرد، فاكتسب التجريب سمعته المتعالية التي لا تأبه بعلاقات الحياة ولا تقدّم صورة واضحة عنها، بينما تحتاج الرواية دائماً إلى إدارة ناجحة تضع التجريب في محله؛ أو تضحي به لصالح قيمة إبداعية أخرى داخل النص. ولا يعدم التلويح بما يوفّره التجريب من دافعية مرحة نحو الكتابة، في حالتي، لا أكتب شيئاً بدون التحديق بعدّاد المجازفات الذي يحفر في المجهول. 
■ أين موقع الرواية العربية في الأدب العالمي من وجهة نظرك، ولماذا لم ينل روائي عربي حظه من العالمية منذ جائزة نوبل التي فاز بها المصري نجيب محفوظ؟ 
□ هناك جهود كبيرة تبذل في سياق الكتابة الأدبية، والعديد من النصوص التي فرضت نفسها عالميا، منها كتابات الراحل نجيب محفوظ وكاتب ياسين وعلاء الأسواني وغيرهم، وهذا يدل على أن النص العربي ليس أقل من النصوص العالمية، خصوصا في السنوات الأخيرة عندما تجرّد من الثقل الأيديولوجي والتضخم اللغوي واتجه وجهة إنسانية وعالمية. كما أن حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب ليس دليلا قاطعا على أن ما جاء بعده ليس صالحا لنيل الجائزة في نماذجه المتعالية الراقية، فقد رشح للجائزة كتاب عرب كالجزائرية آسيا جبّار عضو الأكاديمية الفرنسية ومحمود درويش وأدونيس، ولم يحصل أحد على الجائزة لأسباب قد تكون سياسية أو لحسابات أخرى. لكن هذا لا يمنع من أن نصوصهم حققت إنسانيتها الواسعة من خلال الترجمة، وهو ما يضمن عالميتها أكثر من جائزة نوبل. 
■ من القضايا الضاغطة على عقل ووجدان الإنسان العربي، تلك التي لها أواصر بالغربة والهجرة.. والمحسن بن هنية من الذين شربوا كؤوس الهجرة والاغتراب، نتطلع لتوصيف مذاقاته وطعمه من البعد عن الوطن والمنزل الأول الذي يشهد على انقداح شرارته وانبثاقه؟ 
□ هذا ليس صحيحاً.. الغربة هي أجمل لحظات الحياة لدى الكائنات التي لا تعود تنسجم مع أوضاعها، وتضطرّ للرحيل. ونحن عندما نسافر (حتى لا استعمل نُهاجر ولا نتَغَرّب)، لا نستبدل مكاناً بمكان آخر، وإنما نستبدل فكراً بفكر آخر. نحن لا ننْفُر من الأمكنة التي نرحل عنها، وإنما ننْفُر من السلطة التي تتحكّم فيها. فالمكان كالكائن لا يمكن استبداله. وكل مَنْ يقول عكس ذلك، لا تأخذ ما يقوله على محمل الصواب. وبعدما كبرنا، صرنا نعرف أن مكاننا الحقيقي ليس مسقط الرأس، وإنما هو موطئ القدَم. ولا حاجة بي لأُذكِّركَ ببيت المتنبي الذي يقول فيه: «غنيّ عن الأوطان لا يستحثّني// إلى وطن سافرتُ عنه إياب. ولا ضرورة للإشارة، كما أتصوّر، إلى أنه يعني الوطن الذي يسيء إليه، ويرحل هو عنه مستاء منه. ولا حاجة بي لتذكيرك، أيضاً، ببيت الشعر القديم مَخْطوفاً: بلادي إذا جارتْ عليَّ كريهة // وأهلي إذا ضنّوا عليَّ لئام. (والأصل كما تعرف: بلادي إذا….عزيزة. وأهلي إذا… كِرام). ولهذا، للغربة مذاق العسل عندما يكون الوطن عَلْقَماً. أيكفي هذا؟ 
■ هناك من يقول لم يعد للرواية جمهور هل تتفقون مع هذا الرأي؟ 
□ يمكن أن نعمم ونقول إن الأدب بصفة عامة لا جمهور له، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة الأمية الكبيرة في الوطن العربي وغزو وسائل التواصل الحديثة، لكن مع ذلك يمكن القول إن الرواية ما زالت أكثر مقروئية من باقي الأجناس الأدبية الأخرى، ولهذا تقبل عليها دور النشر أكثر من غيرها، والأدب في عمومه نخبوي شئنا ذلك أم أبينا.

هكذا قدّم لي الروائي المحسن بن هنية نفسه: 
أنا..المحسن بن هنية كاتب تونسي- أصيل ولاية سيدي بوزيد- أصدرت أكثر من سبع روايات ومجاميع قصصية وأعمال تراثية تخص الأدب الشفوي المتداول على ألسنة الناس، وأشرف على سلسلة «ورقات مغاربية» وهي ذات منهجية تعتمد التجارب الإبداعية في أقطار المغرب الكبير، ولكن بشكل متفرد، حيث يكون تناول التجارب من طرف أقلام لا تنتمي لقطر صاحب التجربة. وقد بلغت العدد الرابع وهو يخص تجربة مغربية بأقلام جزائرية، ومن قبلها تجربة جزائرية في عيون مغربية وأخرى تجربة ليبية في عيون تونسية.. وهكذا.. والمهم أنني أشرف على موسوعة روائية تتعلق بالروائيين المغاربيين، وقد أتممنا ثلاثة أجزاء وهي تخص روائيي تونس ثم الجزائر وكذلك ليبيا، والآن منكب على سير وتراجم روائيي المغرب وبعدها إنشاء الله موريتانيا ..

القدس العربي