يَتَنَدَّرُ بعضُ جيراننا بأنَّ بلدَنا موريتانيا، هو "البلد الذي يأخذ فيه السلطة من يستيقظ أولا من الضباط"، ومرجعهم في ذلك يعود إلى سلسلة الانقلابات المتناسخة التي عرفتها دولتنا منذ1978
لكننا لو تجاوزنا هذه الحقبة المشهودة، المثخنة بالانقلابات، والانقلابات على الانقلابات، لوجدنا أن لذهنية الانقلاب العسكري جذورا عميقة في تاريخنا الأبعد، فمنتبذنا القصي هذا ولد توأما أزليا للسيبة، وحسبك أن "دولة المرابطين"، التي نفتخر بأنها من أهم الدول التي نشأت في إقليمنا السائب، كان الانقلاب الذي حدث فيها ربما هو الجد الأعلى لسلالة الانقلابات المتناسلة عندنا، ولكننا -عقوقا أو جهلا- لا نتحدث عن انقلابنا الأول، رغم أن التاريخ يحدثنا أن القائد المرابطي يوسف بن تاشفين، كان تحت إمرة خاله أبي بكر بن عمر اللمتوني، في جهاده المزدوج، في اتجاهي الجنوب والشمال، حيث كان المرابطون منذ عهد المؤسس عبد الله بن ياسين يواصلون فتوحهم، في صحرائنا هذه، وفي أعماق المغرب شمالا، وذات مرة بعث أبو بكر بن عمر ابن أخته يوسف في حملة داخل المغرب، وبقي هو مرابطا في عرينه بثغور (تكانت) الشماء، وفي هذه الحملة قرر القائد يوسف أن ينقلب على سلطة أبي بكر، فأسس لنفسه هناك دولة ، جعل عاصمتها "مراكش" في الجنوب المغربي، وعندما علم أبوبكر بانتصار ابن أخته واستتباب الأمر له، قرر أن يزوره، ليطمئن على الأوضاع في جناح دولته الشمالي، فلما علم يوسف بقدوم خاله وأميره، استشار زوجته زينب النفزاوية، في الطريقة التي ينبغي أن يقابل بها أبا بكر الذي كان زوجها الأول، موضحا لها الإشكال بأنه غير مستعد مطلقا للتراجع عن استحواذه على السلطة، ولكنه في الوقت نفسه لا يحب أن يجابه خاله وولي نعمته وأمره السابق بما لا يليق، ملتمسا من السيدة الأولى للصحراء حلها السحري، فما كان منها إلا أن وضعت له خطة الانقلاب الأبيض، قبل أن يرتد إليه طرفه:
استقبله باستعراض واضح لقوتك العسكرية، وفي كامل أبهتك السلطانية، وسيفهم شيخ الصحراء وحكيمها رسالتك، دون شك؛ فلما رأى أبوبكر ذلك، سأل يوسف: ما حاجتك إلى كل هذه العساكر؟ فأجابه أريدها لأعدائي، فأدرك شيخ المرابطين، فحوى تصرف ابن أخته، وأظهر سروره بعظم سلطان المرابطين هناك، ودعا شيوخهم وأكابرهم، معلنا أمامهم أن يوسف بن تاشفين هو السلطان الأنسب للدولة اللمتونية، وأنه هو لا يصلح إلا للجهاد، وسوف يعود إلى عرينه في منتبذه القصي حتى يلقى الله ربه.
وهكذا نجح الانقلاب الأول في بلادنا يوم كان الحكم لعنصر لمتونة، فلما دخلت قبائل بني حسان هذا الفضاء انقلبت على أسلافها، وتوزعت بلاد السيبة بين إمارات قبلية بدوية، تنقلب كل كل منها على الأخرى متى سنحت لها الفرصة، وينقلب أفراد كل مشيخة منها على بعضهم البعض، عبر حالة من الدور والتسلسل، لم تنته، إلا بانقلاب المستعمر الفرنسي على الجميع، ليسلمنا بعدما يئس من ضبط مجالنا، إلى حكم مدني بدأ يؤسس قواعد الدولة الحديثة على أنقاض السيبة المتأصلة عميقا في صميم هذه الصحراء، ذات الرمال المتحركة، في كل الاتجاهات، مع تقلبات مَهَبَّاتِ العواصف الهوجاء، وسرعان ما وجد هذا الحكم المدني الوليد أن التعددية السياسية الحزبية التي كانت قائمة في ظل الاستعمار لا تناسب هشاشة الدولة الناشئة، فانقلب على تلك التعددية الحزبية، مختزلا إياها في حزب واحد، هو "حزب الشعب" الحاكم، حيث كان "الحزب الواحد" هو نظام الحكم السائد في إفريقيا يومئذ.
وبعد حوالي عقدين من الزمن، أحدثت "يأجو ج ومأجوج" ثقبا، في ردْم الحكم المدني الوليد، فعادت حليمة- في بلاد السيبة- إلى عادتها القديمة...فارتجت بنيات النظام الفتي تحت وقع الأحذية العسكرية الثقيلة، وانقلبت عقليات المجتمع، وتصدعت منظومة قيمه، وتفتت النواة الصلبة للكيانات السياسية، وماعت انتماءات النخب، ، وما تزال الضربات الارتدادية متواصلة هنا وهناك.، منذ أن "زلزلت الأرض زلزالها".
هكذا ينبغي أن نقرأ الظواهر، فسيرورة التاريخ – في نظري- تعتمد على التراكم، أكثر مما تقوم على القطائع.
"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على الإيمان".
أدي ولد آدب