إجراءات أصبحت ضرورية بعد قرار وزارة الزراعة

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
أحد, 2015-08-16 08:23

 

أعلن وزير الزراعة أمام المزارعين قبل أيام جملة من الإجراءات ستتخذها الدولة في قطاع الزراعة المروية، وقد كان القرار الأشد وقعا على المزارعين، من بين هذه القرارات، قرار تخلي الدولة عن سياسة تسويق الأرز التي كانت تنتهجها خلال السنوات الأخيرة. ومفهوم، ومتوقع، استياء المزارع من هذا القرار، باعتباره تعود على أن يحصد إنتاجه ويسلمه لأحد مصانع التقشير، ليدفع له مبلغ 50% من ثمنه في الحال، وينتظر شهرا أو أقل ليستلم المبلغ المتبقي، ويستريح بذلك من متاعب البحث عن مشتر لإنتاجه، ويجد ما يقضي به ديونه، وفي نفس الوقت لا يعنيه أن يكون إنتاجه جيدا أو رديئا لأن كل الإنتاج سيتم " لفه " للدولة في النهاية لتكون هي الخاسر الأكبر!

 وقبل أيام نقل عن مدير شركة " سونيمكس " قوله إن شركته لديها مخزون معتبر من الأرز لم تستطع تسويقه بسبب رداءة نوعيته؛ فمن أين جاء ذلك المخزون الرديء؟ إنه نتاج لعملية التسويق التي كانت تتولاها الدولة، وما يصاحبها من تلاعب المزارعين والمقشرين، الذي ما كان ليحدث لولا مشاركة ومباركة لجان الرقابة!

وإذا كان مفهوما استياء المزارعين من قرار تخلي الدولة عن شراء الأرز، مما يجعل غير المطلع يتبادر إليه أنه من حقهم الاستياء، فإن من حق الدولة أيضا التوقف عن هذا المسار الذي يجلب لها الخسارة من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يخدم التحسين من جودة وتنافسية الإنتاج، باعتبار كل الفاعلين، مزارعين ومقشرين، يجدون جهة ( الدولة ) يمررون لها إنتاجهم بغض النظر، كما قلنا، عن جودته!

صحيح أن سياسة تولي الدولة لعملية تسويق الأرز ساهمت كثيرا في النهوض بالقطاع، وقطعت به أشواطا كبيرة إلى الأمام، وأقنعت به وجلبت له الكثير من الفاعلين، لكن على هؤلاء الفاعلين أن يدركوا أن تلك السياسة كانت سياسة مرحلية من أجل تثبيت أقدامهم في الميدان، لكنها غير قابلة للاستمرار؛ ولا أعتقد أن الدولة اتبعت تلك السياسة أصلا لتكون سياسة استراتيجية ستواصل فيها مهما كلف ذلك، وأستبعد كذلك أن الدولة وصلت بالقطاع إلى هذه المرحلة، حتى أصبحت على مرمى حجر من تغطية احتياجات البلاد من مادة الأرز، لتتخذ إجراءا تدرك أنه سيفقدها تلك المكاسب الثمينة..!

وربما لا يكون دافع الدولة الأساسي لاتخاذ هذا القرار،هو عجزها المادي عن الاستمرار في سياسة تسويق الأرز من حيث تعبئة الموارد المالية اللازمة لذلك، وإنما عجزها عن تسيير هذه العملية فنيا وبشفافية، فلو كان كل المزارعين والمقشرين، وكانت اللجان المشرفة على عملية التسويق على نفس المستوى من حيث المسؤولية النزاهة، لما تسربت للدولة أنواع رديئة من الأرز من خلال تمالئ وتدليس شركاء العملية، ولكانت الدولة تربح من هذه العملية، أو على الأقل تسترجع أموالها.. فهذا ما لم يصرح به السيد الوزير أمام المزارعين لكنه هو الحقيقة عينها، وهو يعرف أكثر من غيره، وبالأسماء والصفات، من عبثوا بالنية الصادقة للدولة بتولي عملية التسويق، ممن لا تهمهم الزراعة ولا الاكتفاء الذاتي ولا تحسين النوعية في شيء!

سيكون من فوائد هذا القرار أنه " سيُغربل " المزارع الحقيقي الجاد المرتبط بأرضه، المشرف على حقله بنفسه، المحترم للتقنيات المطلوبة لزيادة كمية ونوعية الإنتاج، من المزارع الانتهازي الذي يستفيد من تسهيلات الدولة كالقروض ودعم المدخلات والتسويق، لكنه يبخل على مزرعته ويهملها لأنه يعول على تمرير إنتاجه الرديء للدولة عبر القنوات التي كانت قائمة..!

ونتوقع أن يكون التذمر المصاحب لهذا القرار بمثابة التذمر الذي يصاحب عملية " الفطام " عادة ثم يزول بالتدريج.. لكن لن يزول ذلك التذمر بسهولة إلا بإتباع إجراءات تعوض الفراغ الذي تركه القرار، بل إن القرار قد ينعكس سلبا على القطاع في غياب تلك الإجراءات. ولا أعني الإجراءات التي تحدث عنها السيد وزير الزراعة سواء القديمة منها كالاستمرار في دعم المدخلات، وحماية المزروعات، والعمل على ضمان انسيابية المياه في روافد النهر، أو تلك الجديدة كحماية الإنتاج المحلي برفع الضريبة على الأرز المستورد، والتركيز على عامل الجودة، وتوسيع وتكثيف عمليات الإرشاد والتأطير، وهي كلها إجراءات مهمة وفي صميم خدمة الإنتاج، وننوه هنا بإدراك الوزارة لأهمية ومحورية شعبة البذور، ونحض على الإسراع في الإجراءات اللازمة لضمان إنتاج وإكثار البذور بالمعايير المتعارف عليها علميا. إلا أن هناك إجراءات أخرى لن تغني عنها كل الإجراءات آنفة الذكر، وكلها ستقتضيها الظروف الجديدة التي سيصبح فيها كل من المزارع والمقشر بعد قرار حرية التسويق.

1ـ أول هذه الإجراءات الذي كانت الحاجة إليه ماسة قبل قرار الدولة التخلي عن التسويق، وستصبح الحاجة إليه أكثر إلحاحا بعد القرار، هو خلق آلية وهيئة موثوقة تتولى عمليات اختبارات ووزن الأرز، فالذي كان ـ ولا يزال ـ يحدث هو أن يحصد المزارع إنتاجه ويأتي به لأحد مصانع التقشير لاختباره ووزنه وتسويقه، لكن كل أصحاب هذه المصانع بإمكانهم التحكم في تحديد نسبة تصافي أو تقشير الأرز ( Taux de décortication) من خلال التحكم في ضبط أجهزة الاختبار ومدة تقشير العينة المختبرة، حيث باستطاعتهم جعل نسبة التقشير عالية أو متدنية، كما أن موازينهم ليست دائما بالقسط.. وإذا كان ذلك ليس بعلم وإرادة من رب المصنع، فإنه يكون تصرف من القائمين على الموازين وأجهزة الاختبار وبأجر..! وكثيرا ما يأتي مزارع بإنتاجه لأحد المصانع، فيحدد له نسبة تقشير ووزن أرزه الخام، وعندما يتجه لمصنع آخر يحدد له نسبة تقشير ووزنا مغايرين، وأحيانا يكون الفارق في النسبة من 1ـ 3 % ، وفارق الوزن من 100ـ 400 كيلوغرام، وهي فوارق تترتب عليها مبالغ مهمة سيفقدها المزارع ويربحها المصنع!

ولأن المزارع قادم بإنتاجه بعد ستة أشهر من التعب والمشاق والإنفاق والديون، وقد يكون صاحب المصنع الذي يحدد له وزنا ونسبة تقشير ناقصين لأرزه أحد دائنيه، فإنه يكون مضطرا للتسليم بما حدده له من نسبة تقشير ووزن، خصوصا في ظل غياب أي جهة ذات مصداقية تكون حكما في مثل هذه الحالات! لذلك فلا أكثر إلحاحا من خلق هيئة مستقلة ووحيدة أهلها محلفون، يطمئن الجميع، مزارعين ومقشرين، لمصداقيتها وتتولى عملية اختبار ووزن الأرز الخام، وتسلم لكل مزارع كشفا بنسبة ووزن أرزه يذهب به راضيا ومطمئنا إلى المصنع الذي سيبيع له إنتاجه.

 على ألا تكون تلك الهيئة مرتبطة بأي من مصانع التقشير، سواء تلك الخصوصية منها، أو المصنع الذي تعمل الدولة الآن على تركيبه، وذلك ضمانا للحياد والثقة والمصداقية، ف " حرام " أن يتعب مزارع ويشقى وينفق على مزرعته، ويشرف عليها يوميا بنفسه، ويحترم فيها كل التوصيات الفنية، فتضيع جهوده بين تطفيف أجهزة اختبار وموازين مصانع التقشير؛ بينما يتراخى مزارع آخر ويبخل على مزرعته ويهملها، فتأتي قيمة إنتاجه مساوية أو أعلى من إنتاج المزارع المجتهد الجاد! فهذا في حد ذاته يصيب الجادين بالإحباط، ويخل بقاعدة " من جد وجد " ويدمر الثقة في القطاع، بل إنه أخطر على الزراعة من كل آفاتها!!

2ـ إن العامل الرئيسي الذي كان يجعل المزارع يرتاح لتولي الدولة تسويق الأرز، هو أنه كان يحصل على نصف ثمن إنتاجه في الحال، وينتظر فترة وجيزة لاستلام النصف المتبقي، وبذلك يجد ما يقضي به مطالبات عماله، ومطالبات آلة الحصاد وغير ذلك من الديون التي تحملها طيلة الموسم الزراعي. أما الآن وقد تخلت الدولة عن عملية التسويق، فسيبدأ ابتزاز ومماطلة أصحاب مصانع التقشير للمزارعين الخارجين للتو من موسم زراعي منهك وشاق، ولا خيار أمامهم غالبا سوى التعامل مع أصحاب المصانع! لذلك فسيكون من الضروري، والضامن لاستمرار وتطور عملية الإنتاج، البحث عن آلية تلزم أصحاب المصانع بدفع مستحقات المزارعين في آجال وبدفعات معقولة تكفي المزارع لحل بعض مشكلاته، والدولة بسلطتها هي القادرة على ذلك وليس المزارع المحتاج، فلا يُتوقع من مزارع باع إنتاجه لمصنع فماطله، أن يستعد أو يتهيأ لموسم زراعي موال..!

3ـ سمعنا السيد الوزير يقول إن الدولة ستركز من الآن على عامل الجودة، وهناك مسلمة معروفة هي أن الإنتاج الجيد ليس بحاجة لمن يسوقه، لأنه يسوق نفسه مادام بسعر معقول.. ولا خلاف في أن الأرز المحلي أصبحت تتوفر منه نوعيات جيدة، والتجار مقبلون عليها وجاهزون لشرائها، ولو لم يكونوا يبيعونها ويربحون منها لما أقبلوا عليها.. فلا أحد يبحث عن الإنتاج الرديء خصوصا في سوق ليبرالي مفتوح. لكن لن تتحسن وتتطور نوعية الإنتاج من الأرز في غياب الرقابة والإشراف الصارمين من قبل الدولة، ولا أطالب هنا، ولا أتمنى، إنشاء لجنة لذلك، فلجان الرقابة هي التي خربت كل ما خرب، ولجان رقابة جودة الأرز هي التي أوصلت النوعيات الرديئة من الأرز إلى مخازن " سونيمكس " العاجزة اليوم عن تسويقه بسبب تدني نوعيته، ولذلك يجب البحث عن آلية للرقابة على جودة الأرز غير تلك الآلية التقليدية المتمثلة في لجان تتمالأ وتتكسب وتدس!

 وما أقترحه هنا،هو أن لكل مصنع تقشير أكياسه التي يعبئ فيها إنتاجه، وعليها عنوانه وأرقام هواتفه، مما يجعل الدولة قادرة على تتبع وتقصي أي كيس من الأرز المحلي بجودة متدنية تعثر عليه في أي نقطة من البلاد، لتعاقب منتجه بالغرامة أو الإغلاق، ويمكن لمصلحة حماية المستهلك أن تتولى مهمة الإشعار بوجود النوعيات الرديئة من الأرز في السوق، لولا أنني ـ مع كامل الاحترام ـ لا أثق في تلك المصلحة، باعتبارها ليست سوى لجنة كغيرها من اللجان..!

 أما إذا غابت الدولة عن الرقابة الصارمة والدائمة على احترام عوامل ومعايير جودة الإنتاج، فلا تسأل عن العواقب، إذ سيتلقى المستهلك ضربتين في الرأس، فالأرز المستورد أصبح غاليا نتيجة لرفع الرسوم على استيراده، والأرز المحلي لم يعد ملبيا للأذواق، وسينهار ما راكمه من ثقة لدى المستهلكين على مدى عقدين، وسيفلس المزارعون والمقشرون، وسنعود للمربع الأول بعد أن اجتزناه، وبصعوبة، إلى المربع الذي نحن فيه اليوم!

وقد قلنا سابقا وسنكررها، إن جودة الأرز لا تتحدد من خلال جودة تبيضه فقط، فقد نجد أرزا ناصع البياض، حبوبه طويلة ومتجانسة ونظيف تماما من الشوائب، لكنه عندما يتم طبخه تظهر به مواصفات غير محببة لا تدركها إلا ربات البيوت والطباخون، كأن تلتصق حبوبه مع بعضها، أو تنتفخ وتتفتح، أو تكون طرية أكثر من اللازم أو صلبة أكثر من المطلوب، أو يتطلب طبخها ضعف كمية زيت الطبخ التي تتطلبها أنواع الأرز الأجنبي.. وهي الصفات التي لا زال بعض المستهلكين يأخذونها على بعض أنواع الأرز المحلي، معممين تلك المآخذ على كل أنواعه، جاهلين أن منه نوعيات جيدة التقشير وذات مواصفات طبخ جيدة.

 ولذلك لا بد، في متابعة الدولة لجودة الإنتاج، من العمل على جبهتين، الحرص على اتباع واحترام الأساليب الزراعية اللازمة لانتاج نوعيات جيدة من الأرز ( الأصناف، البذور المحسنة، الزراعة في الموعد المناسب، الري، التسميد، مكافحة الحشائش والآفات، الحصاد في الوقت المناسب.. ) كأساسيات تُكسب الأرز المذاق ومواصفات الطبخ الجيدة؛ ثم الحرص على التقشير الجيد والنظيف كحلقة أخيرة من حلقات جودة الإنتاج.

سبق وأن قلنا أيضا إنه ليس شرطا ولا من السهل أن يكون كل إنتاجنا من الأرز إنتاجا بنوعية جيدة، فكل محصول زراعي في العالم، سواء كان حبوبا أو فواكه أو خضروات، يتم فرزه وتصنيفه، بعد حصاده، حسب الجودة إلى درجات أولى وثانية وثالثة، وليس مطلوبا منا أن نرمي النوعيات الأقل جودة من أرزنا في القمامة، بل نعبئ الدرجة الأولى منه في أكياس خاصة وبسعرها الخاص، ومكتوب عليها درجة جودتها وهل هي أرز كامل طويل الحبوب ( entier )، أو أرز بحبوب مكسرة ( brisé )، وتكون النوعية الأقل جودة منه، هي الأخرى، في أكياسها الخاصة وبسعرها الخاص، ومكتوب عليها مواصفاتها الأخرى، ويكون ذلك محترما من طرف الجميع بحيث لا يسمح لمقشر باستخدام أكياس الدرجة الأولى من الأرز لتعبئة الدرجة الثانية أو الثالثة والعكس.. لكي إذا جاء المستهلك أو التاجر لشراء حاجته من الأرز يجد أمامه الخيارات ولا حاجة به لفتح الأكياس، لا أن يجد الجيد والأقل جودة في نفس الأكياس وبنفس السعر ولا شيء يميز بينهما، ليسوقه حظه لشراء كيس أو أكياس من النوعية الأقل جودة وعندما يطبخها يعزم ألا يشتري حبة من الأرز المحلي مستقبلا! أما الرديء من الأرز فلا ينبغي السماح بتعبئته من أجل طرحه في السوق أصلا.

3ـ لا زالت جهود التعريف بالأرز المحلي، والتحسن الذي طرأ على جودته ضعيفة باستثناء ومضات إشهارية لا يذوق لها المستهلك طعما ولا يشم لها رائحة.. وسيكون أنجع من ذلك إقامة مطابخ ثابتة أو متنقلة، تُعتمد لها الطباخات اللاتي اكتشفن وامتلكن مهارات وطرق الطبخ الجيد للأرز المحلي، لكل أنواع الوجبات المحلية التي يدخل الأرز في إعدادها، تفتح هذه المطابخ أمام الجمهور للتذوق والاكتشاف..

ولأن " برنامج أمل " وحوانيته المنتشرة في نواحي البلاد، كان من حسناته الإضافية أنه قد لعب دورا كبيرا في التعريف بالأرز المحلي، فاكتشفه الكثير من المستهلكين وأقبلوا عليه، فإنه يجب التركيز في فتح هذه المطابخ في أوساط اجتماعية أخرى لا زالت لا تعرف شيئا عن هذا الانتاج، بل إن بعضها لا علم له بأن بلادنا تنتج الأرز..!

كما ينبغي هنا الكف عن القول إن الأرز المحلي يناسب مرضى السكري، أو أنه " معلوم فيهم " إلا إذا كان ذلك ثابت علميا.. ولا علم لي بدراسة أو بحث توصل إلى تلك النتائج، لأن الأمر يتعلق بجوانب صحية لا يجوز التلاعب بها أو استخدامها في الأغراض الترويجية..! وللأرز الموريتاني من الميزات ما يغني عن إقحامه في الجوانب الصحية، فهو أولا إنتاج وطني تشمل سلسلة إنتاجه وتقشيره وتسويقه آلاف المزارعين والعمال والفنيين والحمالة والتجار، ويوفر إنتاجه محليا واستهلاكه مبالغ معتبرة من العملة الصعبة، وباستهلاكنا له يقوم كل واحد منا بمساهمة في المجهود التنموي، وهو أيضا خال من المواد الحافظة المستخدمة في الأرز المستورد لحمايته من حشرات المخازن، ويقول بعض مستهلكيه إنه يناسب الأسر ذات العدد الكبير من الأفراد " زاكي.. " .

وقفات تأمل:

قال السيد وزير الزراعة، في معرض شرحه للسياسة الزراعية للدولة أمام المزارعين، إن الدولة وقفت وقفة تأمل سنة 2010 من أجل مراجعة سياستها الزراعية، وقد كنت من المؤيدين لتلك الوقفة وكتبت عنها حينها، فلا بد لمن يريد انطلاقة جيدة من التأمل في ما سينطلق إليه وأخذ النفس له، ولو لم تقف الدولة تلك الوقفة، واستمرت في السياسة التي كان يسير عليها القطاع، لكانت بنت على الركام قبل إزالته.. ولما حققت ما حققته اليوم في هذا القطاع.

ثم يتابع السيد الوزير حديثه ويقول إن الدولة تقف اليوم أيضا وقفة تأمل، وتتخلى عن سياسة تسويق الأرز، كمرحة لا بد منها لوضع كل الفاعلين أمام مسؤولياتهم، وجعل إنتاج الأرز والتحسين من جودته مسؤولية الجميع. وانطلاقا من ذلك أرجوا وأتمنى، بعد أن نصل إلى إنتاج ما يغطي احتياجاتنا السنوية من هذه المادة كما ونوعا قريبا إن شاء الله، ويبدأ الحديث عن التصدير، وقد بدأ، أن نقف وقفة تأمل أخرى ونتساءل هل من مصلحتنا الاستمرار في إنتاج الأرز من أجل التصدير، منطلقين في ذلك السؤال من حقيقة أن الأرز محصول مكلف كثيرا، ومجهد للتربة جدا بسبب طريقة زراعته واحتياجاته العالية من الآزوت، ويحتاج إنتاجه إلى كميات عالية جدا من المياه. ولا يعني كوننا نزرع على حافة نهر أن لا نأخذ جانب المياه في الاعتبار، فهذه المياه لكي تصل إلى الحقول لا بد لها من استصلاحات خاصة، ولابد لها من المضخات وتكاليف الوقود أو الطاقة والزيوت والصيانة..

نعم، شاءت الأقدار أن يكون الأرز هو أحد ركائز أمننا الغذائي، وقد عملنا على إنتاج ما يغطي حاجتنا منه ويحمينا من تقلبات أسعاره العالمية، ويا له من مكسب وطني كبير.. لكن ألا نحافظ على ذلك المستوى من الإنتاج لضمان مخزون سنوي من الأرز لتغطية استهلاكنا، ونبدأ التفكير والتخطيط لزراعة محاصيل أخرى أقل تكلفة واحتياجات مائية، وأكثر محافظة على خصوبة التربة، وذات مردودية اقتصادية لن تقل عن مردودية الأرز؟

 إن أول ما يخطر ببالي من هذه المحاصيل هي محاصيل الأعلاف، كوننا بلد ثروة حيوانية معتبرة، وذات مردود اقتصادي كبير، وتعيش عليها طبقات واسعة من السكان، في منطقة مضطربة مناخيا، وبلدا يهدده الجفاف ويزحف التصحر يوميا إلى أراضيه!  ونحن مخطئون إذا اعتقدنا أننا قادرون على الاستمرار في المحافظة على ثروتنا الحيوانية وتثمين مردوديتها في مثل هذه الظروف، سنة ممطرة وسنوات جافة كليا أو جزئيا، وقطعان تغدوا وتروح خلف مراعي قد لا تتوفر، ومن سنة إلى أخرى تجد الدولة نفسها مضطرة لتعبئة موارد معتبرة لاستيراد الأعلاف لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذه القطعان، ويهبط معدل النمو الاقتصادي السنوي بها كلما أمسكت السماء!

حتى التبن الذي تخلفه زراعة الأرز، لا يستغل منه في الأعلاف سوى أقل من 10%، أما الباقي فيتم إحراقة في المساحات الزراعية بعد الحصاد، فيلوث البيئة ويؤذ السكان برائحة دخانه، في حين أنه يمثل جزءا مهما من الإنتاج الإجمالي للمحصول يزيد من دخل المزارع لو وفرت الدولة أو الخصوصيون آلات ميكانيكية لجمعه وكبسه ( presse – paille )، على شكل مكعبات لتسهيل تداوله وتكويمه ونقله، بطريقة غير الطريقة الحالية التي يجمع بها هذا التبن يدويا في شباك كبيرة الحجم، مكلفة الجمع والتعبئة، صعبة التداول والنقل؛ وهناك منمون وتجار وناقلون راغبون في نقله إلى مناطق بعيدة حيث الحاجة ماسة إليه، لكن طريقة جمعه وتعبئته الحالية تمنعهم من ذلك.. فغريب أن يكون المنمون، في كل موسم جفاف، يجمعون الأعواد الجافة لنبات العشار ( تورجه ) ويطحنونها لأنقاذ جزء من مواشيهم، والتبن الجيد يتم حرقه في حقول الأرز!! وحتى الفكرة الشائعة بأن حرق التبن في الأرض الزراعية يزيد من خصوبتها هي مجرد خرافة؛ فالعكس هو الصحيح، لأن الحرارة الناجمة عن حرق التبن تقتل الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة، والضرورية لتحليل المواد العضوية بالتربة وتحويلها إلى عناصر قابلة للامتصاص من قبل النبات!

أما أراضينا الزراعية ومصادرنا المائية فهي كافية لتخصيص جزء منها لإنتاج احتياجاتنا السنوية من الأرز، واستغلال الباقي في الزراعة المكثفة للأعلاف، سواء كان ذلك في الأراضي المروية أو في السدود، أو بمحاذاة البحيرات، أو في ما يعرف ب " التيمرن " ، وهناك محاصيل علفية شائعة تمارس زراعتها منذ قرون في مختلف أنحاء العالم، ليس من المقبول أن نكون نحن لا نعلم عنها شيئا ونجلس ننتظر السماء!

 ومن هذه المحاصيل العلفية حشيشة " أبو سبعين " المزروعة في السودان على نطاق واسع كأعلاف، وسميت بذلك الاسم لأنها تكون جاهزة للحش ( القطع ) بعد سبعين يوم من زراعتها، فيتم حشها وتقديمها كأعلاف خضراء، وتستمر في النمو من جديد ليتم حشها عدة مرات وتقديمها للمواشي. وهناك صنف الذرة الصفراء الجنوب إفريقي ( PAN 12 ) الذي تم إدخاله مؤخرا للسنغال وتتم زراعته على نطاق واسع هناك، حيث يعطي إنتاجا وفيرا من الحبوب للاستهلاك البشري أو للأعلاف، ومن المادة الخضراء كذلك إذا ما تمت زراعته كمحصول علفي.

هذا بالإضافة إلى أنواع المحاصيل العلفية البقولية كالبرسيم الحجازي المعروف عندنا ب "الفصة "، وكذلك أنواع اللوبيا العلفية ومنها صنف يسمى " المجنونة " وسمي كذلك لسرعة وقوة وكثافة نموه، حيث تعطي وحدة المساحة منه كمية كبيرة من الأعلاف الخضراء المغذية جدا للمواشي. وتعتبر محاصيل الأعلاف البقولية من أهم أنواع الأعلاف الخضراء لقيمتها الغذائية العالية، ولدورها الكبير في استعادة التربة لخصوبتها، مما يؤهلها لتصبح الأنسب لنا في إدخالها في دورة زراعية بالأراضي المزروعة بالأرز المجهد والمنهك للتربة، وفي نفس الوقت توفر دخلا معتبرا للمزارع في الفترات التي لا تكون فيها المراعي متوفرة أو قريبة.

فلا ينبغي أن نعتقد أن التربة مجرد كتلة ميتة أو جامدة لا تتأثر ولا تتدهور، في حين أنها عالم زاخر بالكائنات الحية الدقيقة والمواد العضوية والعناصر المعدنية والغازات، وهي المكونات التي تعطي للتربة خصائصها وتجعل من الأرض أرضا زراعية، وإنه في حالة الإخلال بما يضمن بقاء وتوازن تلك الخصائص والمكونات بفعل الإدارة الخاطئة للتربة، فإن التربة ستقف يوما وتقول : لا، لقد أعطيت وأعطيت وأعطيت.. أما الآن فقد تعبت ولم أعد قادرة على العطاء والإنتاج بسبب معاملتكم السيئة!

فلتتوجه الدولة إذن هذا التوجه، وتأخذ زمام المبادرة بإدخال هذه المحاصيل بوضع خطة جادة، وتحت إشراف فنيين جادين، وعندما تقود تلك الخطة بنجاح وتتوصل إلى نتائج ملموسة، فسيبدأ المزارعون والخصوصيون ممارسة تلك الزراعة بأنفسهم، أقول خطة جادة لأنني لا أريدها أن تكون على خطى تجربة القمح التي لم تسلم هي الأخرى من التلاعب، حيث كان المزارعون الذين تتعاقد الدولة معهم لزراعة قطع من أرضهم بالقمح مقابل مدخلات مجانية كالبذور والأسمدة والمبيدات، يبيعون تلك المدخلات في السوق وتفشل تجارب إدخال القمح!

ولا أتناول هذا الموضوع ( إنتاج الأرز من أجل التصدير ) من منظور الاقتصاد والاستثمار، وميزان المدفوعات والصادرات والوردات، إذ لا أفقه في ذلك كثيرا ولست من المتطفلين.. وإنما أتناوله من الناحية الفنية فقط، ويمكن للدولة الاستعانة باستشارة خبراء في هذا المجال ينيرون لها الطريق، هل تكتفي بانتاج حاجيات مواطنيها من الأرز سنويا وتتجه لزراعات أخرى، أم تتوسع في زراعة الأرز من أجل التصدير؟ وأيا كان ما سيشير به الخبراء فسيبقى الأرز محصولا مكلفا، مفقرا للتربة، عالي الاحتياجات المائية، ومعرض أكثر من غيره لخسائر مهاجمة العصافير، ولا توسع في زراعته إلا بالموازاة مع التوسع في توفير آلات حصاده المكلفة والمعقدة فنيا..!

صحيح، بعض البلدان تزرع الأرز وتصدره، لكن في أية مجتمعات وبأية وسائل وفي أي ظروف؟ إن معظم تلك البلدان وخاصة الآسيوية منها التي تنتج الأرز وتصدره كتايلاند والهند وبنكلادش.. تتمتع بأراض تغمرها المياه طبيعيا، وطورت أصنافا من الأرز تلائمها تلك الظروف تعرف بالأرز المغمور، ولديها يد عاملة هائلة ورخيصة، ولديها آلات الميكنة المناسبة التي تعمل في الماء، فتبذر وتقتلع الحشائش وتوزع الأسمدة وترش المبيدات وتحصد وكل ذلك في الماء..! وبعض هذه البلدان معدله السنوي من الأمطار يصل إلى 2000 مم ولديه أصناف أرز تلائم الزراعة بماء المطر. ومئات آلاف الأطنان التي تصدرها من الأرز معظمها يتم تجميعه طنا وطُنين من حصاد المساحات الصغيرة التي تزرعها عائلات، وهي ثقافة ليست من خصوصياتنا.. فأين نحن من ذلك كله حتى نتحدث عن تصدير الأرز المنتج بوسائل إنتاجنا الحالية، وفي ظروفنا المناخية والاجتماعية المعروفة؟!

إذا ما وقفنا وقفة التأمل القادمة والحاسمة تلك، وقررنا الاكتفاء بما يفي باحتياجاتنا من المساحات المزروعة بالأرز، وقررنا التوجه لزراعة الأعلاف، فلا ينبغي أن يكون ذلك بخطى متثاقلة أو محتشمة، بل يكون توجها استراتيجيا، وبخطة جادة وواسعة وشاملة للأراضي الزراعية المروية بالتبادل بين زراعة الأرز وزراعة الأعلاف، وبجانب حظائر تحسين السلالات، بل وفي الريف لصاحب الشياه وصاحب البقرة والبقرتين ممن يجاورون مصدرا مائيا للري، سواء كان نهرا أو بحيرة أو سدا مائيا.. فقد تأكدت عندي الحاجة الطارئة والماسة للتوجه الجدي  لزراعة الأعلاف على نطاق واسع، عندما مررت قبل أسابيع بقطيع من الأبقار يلحس التراب جوعا على حافة بحيرة ألاك الشهيرة والغير مستغلة منذ وجودها!

ولم لا تكون نظرتنا المستقبلية أبعد من ذلك، ونبدأ التفكير والتخطيط لتجميع كل قطعاننا ( الأبقار خاصة ) في حظائر ثابتة حيث ما توفرت المقومات لذلك، ونزرع بجانبها الأعلاف الخضراء، ونجلب لها الأعشاب والحشائش من المراعي الطبيعية في حالة ما إذا نمت في فصل الخريف؟

 فبذلك ستنخفض تكاليف إدارة هذه القطعان، وتسهل رعايتها الصحية، وتربح الطاقة التي تهدرها جيئة وذهابا بحثا عن المرعى، ويسهل تجميع ألبانها وإقامة مصانع الألبان والمسالخ بالقرب منها، وتكون مقنعة للمستثمرين والراغبين في استيراد ألبانها أو لحومها، وتكون صادراتنا من منتجات هذه القطعان من حليب وزبادي وزبدة وقشطة وأجبان .. بالإضافة إلى ما لا يقل أهمية عن ذلك من إراحة أراضينا من خطورة الرعي الجائر أو الاستكلاء ( surpaturage ) وإعطائها الفرصة لاستعادة غطائها النباتي من الأشجار والشجيرات التي تنبت سنويا، لكنها تموت تحت أقدام وأظلاف وحوافر الإبل والأبقار والحمير، بل وتتغذى عليها هذه الحيوانات ولا تعطيها الفرصة لتنمو إلى حجمها الطبيعي!

 أين هي سياسات التكيف مع آثار التغيرات المناخية التي لا يمر يوم إلا وورشة وعرض وملتقى ويوم تفكيري حولها؟! هذا التكيف ليس بالورشات فقط، ولا بمجلدات التوصيات التي أصبحنا نملك منها حمولة السفن والشاحنات، بل بالنزول للميدان والاستماع بإنصات لنواقيس وإنذارات تدهور التربة واختفاء الغطاء النباتي، والإدراك أن ما كان ممكنا من طرق زراعة وتربية مواشي لم يعد ممكنا، وأضحى يتطلب تكيفا وسياسات وخططا جديدة أعرف أنها موجودة في الأوراق وعلى الرفوف، لكنها لم تنزل بعد إلى الميدان! فالتفكير والتدارس مطلوبان، لكن بشرط أن يوصلا إلى أفكار وتطبيق.

لن يكون توفر الأراضي الخصبة هو العائق للتوسع في زراعة الأعلاف أو غيرها من المحاصيل الأخرى، فبتوسع الدولة في سياسة شق القنوات المائية لجر المياه لمساحات زراعية بعيدة عن النهر، كالذي يجري الآن في قناة " آفطوط الساحلي "،  و" تنيدر " يمكن الحصول على مئات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، فمنطقة " آفطوط الشرقي " بمساحاتها المستوية الشاسعة التي نسير فيها بالسيارة ليوم كامل، هي أراض زراعية خصبة وجيدة لو تم شق قنوات الري باتجاهها، وكذلك هو الحال في مناطق واسعة من لبراكنة، وحتى الأراضي الصفراء الخفيفة المتاخمة للضفة الشمالية للنهر هي راض مناسبة لزراعة الكثير من أنواع الأعلاف، وقد كان الخبراء الأجانب عندما نمر عليها معا، ويرون مياه النهر بجانبها، يقولون لنا إنها " ذهب ضائع.."، كما أن لاستغلال هذه الأراضي الخفيفة جوانب بيئية مهمة، حيث ستعمل زراعتها بالأعلاف على تثبيتها، وبالتالي وقف زحف الرمال نحو سهول شمامة الخصبة..

ولنفعل كذلك مراكز بحوثنا التي يبدو أننا ننشئها فقط من أجل خلق مناصب لمدراء ووظائف لموظفين! فلم نرى لهذه المراكز يوما أي نشاط، ولم نجدها تنشر أو تقدم نتائج بحث، ويعرف ذلك وزير التعليم العالي والبحث العلمي واعترف به وقال إنه لا وجود للبحث العلمي في مؤسساتنا، فمراكز البحث الزراعي ليست للموظفين المعطرين، بالبدلات وربطات العنق والنوم على المكاتب، بل هي مكان لرائحة العرق والطين.. وخلايا نحل تتقن عملها وتؤمن به وتتفرغ له، وتتم مساءلتها إذا لم تقدم ما يثبت ويبرر وجودها؛ أو فلنحترم، على الأقل، ما أفنى آخرون أعمارهم في بحثه ودراسته حتى قدموه لنا في صورة قواعد وحقائق.. فالزراعة، كمجال علمي تجريبي، تسير خلف البحث ولا يسير خلفها!

محمدو ولد البخاري عابدين!