حديث السبت: العربيّة الحديثة: إلى أين؟

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
سبت, 2015-08-29 23:23

  إلى روح الفقيد العظيم محمد سعيد همدي، مؤمنا ومثقفا وإنسانا.

 

ـ1ـ

من البديهيّ أنّ المدّ الأوروبّيّ الحديث مثَّلَ تحدِّياً كبيرا للعربيّة. ليس فقط لأنّه كان كذلك بالنّسبة لكلّ لغات وثقافات العالم. بل خصوصا لأنّ كلّ ما يعرف باللّغات القديمة التّاريخيّة (الآراميّة والعبريّة التوراتية وااليونانية المشتركة واللاّتينيّة والعربيّة والفهلويّة والسّنسكريتيّة والصّينيّة الكلاسيكيّة) انتهتْ تقريبا كلغات حيّة ربما باستثناء العربيّة (أو الصينية إذا صحّ أنّ المندرينية المحدثة استمرار للكلاسيكية). أي أنّ العربية كانت مرشَّحة لأن تشهد مصيرا مماثلا لما عرفتْه اللاّتينيّة مع صعود الإمبراطوريّات الأوروبّيّة الحديثة. مع ذلك فإنّ هذه الإمبراطوريّات في مراحل مدّها الأولى لم تحاول القضاء على اللّغة العربيّة. بل إنّ وضعيّة الأخيرة استفادتْ مرحليّا من المدّ الأوروبّيّ على ستّة أصعد . استفادت مرحليّا من الحامل التّقنيّ الصّناعيّ ومن الحامل الإيديولوجيّ السّياسيّ ومن النّشاط الاستشراقيّ  ومن الصّراع الأوروبّيّ الأوربي  ومن استخدام الأوروبّيّين في مناطق متعدّدة من العالم الإسلاميّ لوسطاء مترجمين من وإلى العربيّة. ولم تأت دولة محمّد عليّ باشا في القرن التّاسع عشر وما عُرف بالنّهضة إلاّ كتطوّر خاصّ لهذا السّياق العامّ. وهو ما يفسِّر الصَّدى الّذي وجدتْه النّهضة في أجزاء واسعة من العالم الإسلاميّ كحركة أدبيّة وصحافيّة. وهو الصّدى الّذي وصل أوجه مع العقود الأربعة الأخيرة من القرن التّاسع عشر عندما أضحت الصّحافة المصريّة الشامية تتمتّع بمستوى ما من المقروئيّة لدى فئات معتبرة من نخب العالم الإسلاميّ داخل وخارج ما سيعرف بالعالم العربيّ.

 

ـ2ـ

ولكنّ المفارقة هنا هي أنّ القرن التّاسع عشر كان القرن الّذي فصل إلى حدّ كبير نخب العالم الإسلاميّ عن العالم العربيّ. أو بعبارة ثانية كان القرن الّذي كرَّس خصوصيّة العالم العربيّ داخل العالم الإسلاميّ. وهو ما مثّل مستوى معيّنا من انعكاس نموذج ما يسمى بالدّولة الوطنية ـ أو الدولة القوميّة ـ في ملامحه اللّغويّة الثّقافيّة على علاقة العالم العربيّ ببقيّة العالم الإسلاميّ، بل على علاقة كلّ أجزاء العالم الإسلاميّ بعضها ببعض.

فكما هو معروف فمنذ أواخر القرن الثّامن عشر أضحى توظيف الانتماء اللّغويّ لتكوين دول وطنية ما أو للقضاء على أخرى أحد العناصر الاستراتيجيّة المركزيّة في صراع الدّول الأوروبّيّة فيما بينها داخل وخارج أوروبّا وفي صراعها مع الإمبراطوريّة العثمانيّة ومع دول العالم غير الأوروبّيّ. أضحت إذا، مع المدّ الأوروبّيّ، قضيّةُ اللّغة في صلب الصّراع السّياسيّ في العالم وفي صلب تَمَثُّلاتِه المعياريّة. كما أضحت محاولة اعتماد انتماء لغويّ ثقافيّ موحّد وتعميمه على المستويين الأفقيّ والعموديّ داخل فضاء أيّ دولة أَهَمَّ وسيلة لدى سُلَطِها من أجل تفادي استغلال تعدُّدها اللّغويّ الثّقافيّ من قبل منافسيها الخارجيّين أو معارضيها الدّاخليّين.

لا شكّ أنّ العربيّة قد فقدتْ، أو بدأت تفقِدُ، منذ أواخر القرن التّاسع عشر شرائح متزايدة من النّخب الإسلاميّة خارج ما أضحى يُسمَّى، منذ نفس القرن، بالعالم العربيّ .  ولكن لا شكّ أيضا أنّ العالم العربيّ نفسه تشكّل في القرن التّاسع عشر. فقد كانت النّهضة ـ رغم صدورها عن سياق تفكك الامبراطورية العثمانية ـ  ذاتَ منحى توحيديّ، بحكم الأفق العامّ الّذي شكّلتْ إحدى تجلياته كما رأينا فيما يتجاوز دولة محمّد عليّ ومحيطها القريب. كانت حدودُها الحقيقيّة لغويّة. وهو ما يفسّر انتشار الصّحافة العربيّة في أواخر القرن التّاسع عشر في مساحة تتجاوز بكثير طموحاتها الأولى. وهو كذلك ما يمثّل الأرضيّة الّتي حاولت دولة محمّد عليّ استثمارها السياسي جزئيا لتوسيع حدودها. تماما كما حاولت ذلك على الصّعيد النّظريّ إيديولوجيّاتُ  اليسار القومي الّتي ظهرتْ لاحقا .

 

ـ3ـ

ولكنّ وضعيّة الاستعمار المباشر الّتي لم تبدأ في العالم العربيّ -باستثناء الجزائر – إلاّ في أواخر القرن التّاسع عشر ستخلق واقعا جديدا. وهو واقع كرّس من جهة القطيعة بين العالم العربيّ وبقيّة العالم الإسلاميّ. ومن جهة ثانية خلق قطائع قويّة داخل العالم العربيّ شلَّتْ عُمْقِيّا فاعليَّة ما سُمِّي بالنّهضة على الأقلّ كما ارتسمت ملامحها العامّة في القرن التّاسع عشر.  لنتذكّر أنّ فترة ما سمِّي بالاستعمار المباشر لم تدم طويلا ولكنّها وبحكم السّياق العامّ الّذي شكّلت مرحلة من مراحله بدتْ حاسمة في صياغة الهويّة القطريّة للدّول الموروثة عنها كدول مُبَلْقنة. وهي دول تكوّنتْ واستبطنتْ عُمْقِيّا خصوصيّتها خلال المرحلة الاستعماريّة عبر تكوّن / تكوين طبقات شبه تكنوقراطيّة ذات طابع وَساطيّ “ترجمانيّ ” وتأهيل متواضع . هل تمكّنت الدّول القُطريّة من تجاوز هذا التّحدّي عبر اعتماد خيار تربويّ إستراتيجيّ منسجم يعتمد دون تردّد اللّغة العربيّة أو إحدى اللّغات الأوروبّيّة ؟ أي هل تمكّنت هذه الدّول من تطوير الطّبقات التّكنوقراطيّة الموروثة عن الاستعمار أو خلق طبقات جديدة بديلة عنها ؟

 

ـ4ـ

الواقع أن “الاستقلالات ” وضعتْ العالم العربيّ في مواجهة مشكلة جديدة عصيَّة تتمثّل في البنية العميقة للدّول القُطريّة الموروثة عن الاستعمار .أغلب النّخب الّتي قادت الدّول العربيّة الموروثة عن الاستعمار هي نخب البرجوازيّات الصّغيرة حديثة النّشأة، أي الّتي تشكّلت تحديدا خلال المراحل الاستعماريّة الأخيرة، واستفادت من مدارسها. وهي نخب استبطنتْ بنسبة أو بأخرى ” الوعي القوميّ ” الأوروبّيّ كوعي مبنيّ على الانتماء إلى لغة جامعة. وكوّنتْ بطبيعة الحال مستوى أو آخر من ” الوعي القوميّ” المضادّ . ولكنّ هذا الوعي المضادّ ظلّ يصدر أساسا عن محلّيّة الدّولة القُطريّة الموروثة حتّى حين كان يعبِّر عن نفسه بمفردات أيديولوجيّة تطالب بتوحيد العالم العربيّ ككلّ في دولة وطنية واحدة أو بتوحيد العالم الإسلاميّ في دولة خلافيّة جامعة أو بمفردات أخرى تكتفي بالدّعوة إلى توحيد إقليم “ثقافيّ ” معيّن ( كبلدان المغرب أوكحوض النّيل أو كالهلال الخصيب إلخ ).

 

ـ5ـ

كيف أصبح للدّول القُطريّة كلُّ هذا الوزن في الوعي “الوطني” أو “القوميّ” الوليد بغضّ النّظر عن الخيارات البديلة ومدى واقعيّتها ومشروعيّتها ؟ كيف سيطرتْ على وعي نخب “الاستقلال ” كيانات سياسيّة صيغتْ في بضع عقود ووفق احتياجات الطُّوبوغرافيا العسكريّة للإمبراطوريّات الأوروبّيّة المتصارعة؟ وهو معطى تاريخيّ ظلّت هذه النّخب نفسها تُلِحّ عليه في منطوق أدبيّاتها السّياسيّة.

لا تهمّنا هنا الإجابة على هذا السّؤال رغم أهمّيّته ولكن يهمّنا هنا فهم تداعيات الإشكاليّة الّتي يصدر عنها على مشكلة اللّغة في العالم العربيّ. لقد وَجَدَتْ العربيّة نفسها مع ظهور الدّول القطريّة المرتفعة العدد نسبيّا في وضعيّة حرجة . ذلك أنّ أي سياسة لغويّة تتعلّق بها أصبحت ترتبط باحتمال وجود سياسة لغويّة متقاربة أو قابلة للتّقارب بين أكثر من عشرين دولة تعكس صراعاتُها ميزانَ القوى الدّوليّ والإقايمي والدّاخليّ وتناقضاته البالغة التّعقيد. وهي دول تقودها نخب ليس لها غالبا إلاّ فهم محدود لمشكلة اللّغة في العالم المعاصر. ولا تَحلّ قضايا التّكوين والتّأهيل والبحث والسّياسيّة الثّقافيّة حيّزا مركزيّا في مجال اهتماماتها، دون أن يعني ذلك أنّ مثل هذه الاهتمامات ليستْ حاضرة بطبيعة الحال بنسبة معيّنة.

 

ـ6ـ

يلزمنا بهذا الخصوص أن نميّز بين نوعين عن الدّول العربيّة . هنالك من جهة دول موروثة عن الاستعمار ولكنّها “استقلّتْ” عنه عبر مستوى من الصّراع الجدّيّ معه.  وهو صراع أوصل تيّارات بنتْ مشروعيّتها النّسبيّة على مناهضة الأخير إلى السّلطة. يتعلّقُ الأمر بتيّارات محسوبة في ملامحها العامّة على اليساريه العالم ثالثية التي انتشرتْ لدى أجيال ما بعد الحرب العالمية الثانية. مثلتْ هذه الدّول غالبا الأقطار المتوسّطة الحجم والإمكانيّات ( مصر والجزائر وسوريا والعراق إلخ ) الّتي عرفتْ فعلا بعد الاستقلالات حركة واسعة – وإن بمستويات مختلفة وحاجات مختلفة – لتعريب التّعليم والإدارة. وبشكل مباشر أو غير مباشر ظلّتْ هذه الدّول كما هو معروف هي الأكثر تأثيرا في العالم العربيّ ككلّ إلى أواخر الثّمانينيّات. ولكن عكسا لما حملْتْه شكليا المفردات التعبوية لنخبها السائدة فإنّها بقيتْ نخبا غارقة في “وعيها” القطريّ . الوحدة العربيّة نفسُها لم تكن تعني في الممارسة، حين كانتْ تُرفع كشعار، إلاّ توجّها يصدر عن وعي “قطريّ ” موروث عن الأطر الّتي بَنْيَنَتْ عبرها الإمبراطوريّاتُ الاستعماريّة الواقعَ المحلّيّ. لم تُفلح إذا تلك الدّول بحكم بنْينتها القطريّة في أن تكون عامل توحيد للسّياسة اللّغويّة الثّقافيّة العربيّة بمجموعها حتّى في أدنى تمظهراتها كتوحيد المصطلحات المدرسيّة وتعميمها. وباستثناء التّجربة السّوريّة فإنّ الدّول الباقية ظلّتْ متردّدة بنسبة أو بأخرى في التّعريب الشّامل لكلّ فروع التّعليم العالي وللمهن المرتبطة به. وفوق ذلك فإنّ الطّابع الشّموليّ الأوتوقراطيّ لأنظمة هذه الأقطار والدّعاية الإيديولوجيّة المتغوّلة الّتي تماهتْ معها حجبا جزءا كبيرا من إيجابيّات تجاربها اللغوية ولم يتركا فيها هامشا كبيرا لظهور سياسة تربويّة وثقافيّة وبحثيّة رصينة ومقنعة، أي مستقلّة ولو نسبيّا عن الضّجيج الدّعائيّ والتضخّم الأمني.

 

ـ7ـ

من الجهة الثّانية هناك مجموعة من الدّول تُمَثِّل في أغلبها الدّولَ العربيّة الأصغر حجما والّتي كان استقلالها أكثر صوريّة. ولكنّها تضمّ دولا أصبحتْ نافذة على السّاحة العربيّة منذ بداية التّسعينيّات بحكم العوامل المعروفة. وهي دول عرفتْ في معظم الأحيان تعريبا جزئيّا أو كلّيّا لتعليمها المدرسيّ العامّ ولكنَّ تعليمها الجامعيّ ظلّ في معظمه غير معرّب وكذلك قطاعاتها الاقتصاديّة الأكثر حيويّة .

وإذا أخذنا بعين الاعتبار النّفوذ الّذي تمتّعت به مثل هذه الدّول في العقدين الأخيرين والهيمنة المتزايدة عربيّا للنّموذج الّي تمثّله فلنا أن نتسائل عن وظيفة التّربيّة والتّعليم نفسيهما كما سادا ويسوادان عربيّا. فهي وظيفة تبدو عصيّة على الفهم والمقاربة المنطقيّة إذا تمّتْ مساءلتها من منظور الإشكاليّات المرتبطة بالتّأهيل والمصادر البشريّة في الدّول الحديثة. بكلمات أخرى، كيف نستطيع أن نجد تفسيرا مُعَقْلَناً مثلا لاختلاف لغة التّدريس العامّ عن لغة العمل في أبرز القطاعات العموميّة والخاصّة كما هو الحال في مثل هذه الدّول ؟

 

ـ8ـ

من العسير أن نجد لذلك تفسيرا آخر سوى أنّ الدّول المعنيّة هي إمّا دول ريعيّة كلّيّا لا تحتاج ولا تطمح إلى خلق بِنيات إنتاجيّة محلّيّة جِدِّيّة. وإمّا دول تعيش باقتصادين متوازيين منفصلين نسبيّا. أحدهما اقتصاد للأغلبيّة العدديّة، ذو طابع تقليديّ أو شبه تقليديّ كفافيّ مستقلّ إلى حدّ كبير عن التّأهيل الذي يُفْتَرض أنّ التّربيّة والتّعليم الحديثين يمنحانه. والثّاني للأقلّيّة يضمّ القطاعات العامّة والخاصّة الأكثر حيويّة والّتي تنتمي أساسا لدورات إنتاجيّة فوقيّة، أي تمثّل محض امتداد لأسواق خارجيّة محدّدة. إنّها بتعبير آخر دول تجسّد الصّورة الأكثر كاريكاتيريّة للدّولة الكومبرادوريّة حيث لا وجود لدورات اقتصاديّة محلّيّة متكاملة. الواقع أنّ أغلب الدّول العربيّة الموروثة عن الاستعمار ظلّت جذريّا – منذ وُلِدت إلى الآن – دولا فوقيّة؛ دولا صادرة عن الخارج لتكون وسيطا بينه وبين المجتمع المحلّيّ التّقليديّ، ولم تنجح إلى الآن في أن تصبح جدّيّا تعبيرا سياسيّا عن المجتمع وعن خيارات أسياسيّة لهذا المجتمع. هنا تتجسّد ازدواجيّتها أي “حداثتها ” وتقليديّتها في آن .

 

ـ9ـ

ولأنّ الأغلبيّة يتمّ “تكوينها ” دون أيّ إمكانيّة لدمجها في السّوق الحديثة لأنّها تحديدا كما رأينا سوق خارجيّة فمن الطّبيعيّ أن تظلّ تلك السّوق مُسَيَّجة دونها بحاجز اللّغة. ومن الطّبيعيّ بنفس المنطق أن يُصبح، في أذهان أصحاب القرار، الاهتمامُ بنوع التّكوين الّذي تتلقّاه الأغلبيّة أمرا جدّ نافل بل غير مجدٍ. يكفي أن ننظر في المخصّصات الماليّة للتّربية والتّعليم والبحث العلميّ والنّسبة الّتي تمثّلها في الميزانيّات العربيّة مقارنة مع غيرها لنفهم حجم الإشكاليّة .

ينشأ عن ذلك أنّ المعادلة التّربويّة السّائدة حاليّا في الدّول العربيّة وبصيغها المختلفة هي معادلة إلغاء الجزء الأكبر من المصادر البشريّة لصالح الأقلّيّات المكوّنة في المدارس الخاصّة والأجنبيّة. فهي معادلة مبنيّة على القطيعة بين مكوّنات ما يُفترض أنّه دورة اجتماعيّة اقتصادية واحدة وبالتّالي على شلّ هذه الدّورة ( التّعليم العامّ بالعربيّة والخاصّ والعالي باللّغات الأجنبيّة، أو العلوم الإنسانيّة بالعربيّة أمّا العلوم البحتة والتّقنو علوم فباللّغات الأجنبيّة. سوق العمل باللّغة الأجنبيّة باستثناء بعض القطاعات غير الحيويّة إلخ ).

 

ـ10ـ

تعميم الفصحى وتفصيح العامّيّات يفقدان هنا جزءا كبيرا من غايتهما. تصبح العامّيّة المعمَّمة إن جاز التّعبير أهمّ وأكثر عمليّة من الفصحى ما دامت الأخيرة ليست فعليّا لغة العمل والإنتاج الفكريّ والمادّيّ المثمَّن. تميل اللّغة العربيّة الفصحى في هذا الأفق إلى أن تصبح محدِّدا اجتماعيّا منفِّرا . ففي أغلب مناطق العالم العربي، أضحت العربيّة لغة الفقراء، لغة خرِّيجي المدارس العموميّة من ذوي التّكوين الهشّ وممّن لا أمل لهم غالبا في وظائف التّميّز المرغوب فيها اجتماعيّا، بل لا أمل لهم في أغلب الأحيان في أيّ وظيفة. لا يزداد فقط ، تبعا لذلك ، الزّهدُ في التّعليم وترتفع نسب الأمّيّة الأبجديّة بل تتكرّس أكثر صورة العربيّة كمحض ظاهرة صوتيّة ممجوجة : لغة البطالة والدّعاية الإعلاميّة والعنتريّات الرّسميّة والعنف الطائفي والحركات الدموية. ولا يتراجع فقط المستوى العامّ للتّعليم في العالم العربيّ. بل يصبح التّعليم ذاته بلا هدف محدّد.

 

ـ11ـ

يطرح ذلك تاريخيّا السّؤال التّالي : لقد بدا وكأنّ  ما سُمّي في القرن التّاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالنّهضة قد فتح آفاقا واسعة نسبيّا للعربيّة بجعلها لغة معاصرة، فهل تكون هذه الآفاق قد عرفت شيئا فشيئا حالة انسداد كلّيّ بسبب ظاهرة الدّول القُطريّة ؟

ولكنّه يطرح كذلك تاريخيّا السّؤال المقابل : هل يختلف مسار العربيّة المعاصرة عن مسار لغتين مركزيّتين كالصّينيّة المندرينيّة والهنديّة – الأرديّة. فهما لغتان غير أوروبّيّتين كالعربيّة وعرفتا في القرن الماضي وضعيّة ومشاكل وتحدّيات داخليّة وخارجيّة مشابهة للّتي عرفتْ هي . وهما لغتان تتربّعان اليوم إلى جانبها على قمّة أبرز اللّغات العالميّة من حيث عدد النّاطقين بها . فإذا كانت التّحوّلات الجيوستراتيجيّة العالميّة الحاليّة تسير لصالح تكريسهما كأبرز لغات الغد فلِمَ لا تكون العربيّة مؤهّلة أكثر منهما لنفس التّكريس ؟ لا شكّ أنّ عدد الدّول الّتي تعتمد العربيّة كلغة رسميّة أكثر بكثير من تلك الّتي تعتمد الصّينيّة أو الهنديّة ( أربع وعشرون بالنّسبة للعربيّة مقابل ثلاث بالنّسبة للصّينيّة وثلاث بالنّسبة للهنديّة ). وهي اللّغة التّاريخيّة الوحيدة الّتي ما تزال لغة حيّة . وفضلا عن أنّها شاركت قديما في مرحلة انتشار الكتابة الأبجديّة وكانت اللّغة الرّئيسة لثورة الورق فإنّها استطاعت الانخراط بمستويات معيّنة في الثّورات اللاّحقة (المطبعة والتّقنيات الحديثة والتّقنيات الجديدة إلخ ) . ويمكن ولا شكّ استعراض عدّة معايير أخرى تميل لصالح العربيّة. ولكنّ كلّ واحدة من اللّغتين الآسيويّتين تتوكّأ اليوم على إحدى الإمبراطوريّتين الصّينيّة والهنديّة المرشّحتين أكثر من غيرهما للهيمنة على اقتصاد القرن الحاليّ. وهو فرق جوهريّ مع العربيّة لا يمكنها القفز عليه باستنفار عدد الدّول القطريّة الّتي يُفترض أنّها تتوكّأ عليها. من الواضح إذا أنّ العربيّة عكسا لمنافستيها لا تعتمد قوّة دولتيّة مماثلة، على الأقلّ بالمعنى التّقليديّ للقوّة الدّولتيّة. ولكن من الواضح أيضا رغم ذلك أنّ التّاريخ لم يقل بعدُ بهذا الخصوص كلمته الأخيرة.

د. محمد بدي ابنو

مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل

   [email protected]