التاريخ ومحنة الدولة الثقافية

ثلاثاء, 2014-07-15 15:37

الظاهرة السياسية المضطربة في الفكر العربي الاسلامي، تحمل في جوهرها الكثير من الشفرات الصراعية ذات المرجعيات الثقافية، اذ تكون الثقافة تعبيرا عن الوعي بأزمة الهوية والعصبية والقرابة والعمران، وهو ما ينعكس على شحن الصراع السياسي بعوامل الاحتقان والتهييج، تلك التي تتمثل في ابراز مظاهر العنف والارهاب والتكفير الذي كثيرا ما تضج به اليوم وقائعنا السياسية والاجتماعية، وانماط تداولنا للخطاب الديني بوصفه خطابا طائفيا، اوحتى خطابا للسلطة التي تعني ولاية الامر في المفهوم الفقهي.
سوء الانتاج الثقافي وتشوه مظاهره العقلانية والنقدية والتنويرية والاصلاحية، وغياب المؤسسات والتقاليد الثقافية اسهم الى حدّ كبير في منع انتاج(الصيانات الثقافية) التي يمكن ان تحمي الهويات والجماعات، مثلما هو اسهامها في تعديم فكرة النقد، وتغويل السلطة، باعتبارها سلطة غير نقية وغير عادلة، او انها سلطة تمثل جماعة معينة او طائفة معينة..وان هيمنة هذه السلطة تاريخيا او عبر الانقلابات لعب دورا قهريا في تدمير فكرة التعايش، وفكرة قبول الاخر بعيدا عن زندقته او تكفيره او تخوينه، مثلما انتج ايضا مؤسسات مضادة تروّج لقوة السلطة ولرمزيتها السياسية والطائفية، مؤسسات فقهية وعسكرية وايديولوجية وعقابية واعلامية وخيرية وجماعاتية وتعليمية، وهو ما يعني تكريس الفرقة داخل المجتمع وتغليب الاثرة العصبية على ما سواها من القيم الجامعة والمانعة للصراع الهوياتي والطائفي على اساس خلافية النظر للنص والتاريخ والخطاب..
ازمة الصناعة الثقافية وفوبيا التاريخ..
هيمنة السلطة المغولّة فرضت اشكالا اخرى لهيمنات ثانوية، لكنها اكثر رعبا، واكثر سعيا لامتلاك العنف والثروة والمعرفة، وحتى الاعلمية، وهو ماجعل فكرة السلطة محكومة بعوامل التاريخ والدين والقرابة، وبعوامل سياسية ضاغطة نحو الاسئثار بمركزة الحكم، بوصفه حكم الجماعة..هذه المركزة عمدت الى انتاج مظاهر قهرية للتداول الثقافي، المحكوم هو الاخر بمرجعيات تاريخية ضاغطة، وهذا التداول الثقافي اصطنع له هو الاخر مظاهر عبرت عن نفسها من خلال بعض الصناعات الثقافية الاعلامية والفنية، اذ عمدت هذه الصناعة الثقافية خلق بيئات معينة لعمل المؤسسات الثقافية، وتهيئتها لان تكون حواضن حقيقية لفعل ثقافي محكوم بالتوجهات، ولابراز معطيات محددة لوعي مرجعي للمفاهيم والافكار، بعيدا عن اثارة الاسئلة الجديدة التي تتعاطى مع مفاهيم الحداثة والدولة والحرية والهوية والاخر والصراع الطائفي ومدنية الدولة وغيرها من المفاهيم الاشكالية. 
هذه الاسئلة تعني البحث عن الاسباب الدافعة باتجاه اعادة انتاج النسق الثقافي الفعال، وابراز قيم النسق البعيد عن المضمر القديم والمسكوت عنه، والذي ظل جزءا من بنيات الدولة القديمة، بوصفها دولة للجماعة وللمعسكر وللطائفة وليست صورة حقيقية للدولة الجامعة..
فمن اجل ان تكون هذه الصناعة الثقافية فاعلة ومؤثرة، فإنها اكثر حاجة لوجود اسس ومشاريع وبرامج، والتي تعني قيام الفاعلين الرئيسين وصناع القرار من تبني هذه الصناعة دستوريا وتشريعيا، بوصفها فعالية تقوم ستراتيجيات حقيقية وواقعية ونقدية، اي انها قرينة بالحاجة الى وجود البنيات المادية واللوجستية الداعمة، مثلما هو حاجتها للتلازم مع بنيات مجاورة وفاعلة كالتنمية والتعليم، اذ لايمكن الحديث عن ثقافة فعالة دونما وجود قاعدة تعليمية واسعة، ودون وجود بنيات مادية وبرامجية للتنمية البشرية والتنمية العلمية والخدماتية والصحية والعمرانية، فهذا التلازم يقوم على التكامل والتمكين، وبالتالي يكون العنصر الاكثر شمولية في اعطاء الصناعة الثقافية بعدها التكويني من جانب، وتنشيط فعاليتها التوليدية من جانب اخر.. فكلنا يعرف ان الثقافة لم تعد هي المجال التداولي للانماط الادبية فقط كما كان يعرفها الكثيرون والتي خلقت لنا ذاكرة مقفلة، وخضوعا توصيفيا الى مايشبه(الاستبداد الادبي والشعري بشكل خاص) بل تجاوزت ذلك لتكون اكثر انفتاحا في مجال التوصيف والتعرّف والشمولية، من منطلق ان الثقافة هي الكلّ التلازمي، الذي يشمل عمل الانسان والمؤسسة والمكان والعمران وانتاج القيم بكل تمظهراتها وتوصلاتها.
الدولة والصناعة الثقافية
هذا المعطى يتطلب بالاساس انعاش فكرة الدولة العادلة، اي دولة القوانين والمؤسسات، فضلا عن التأصيل القانوني والاجرائي لعمل المؤسسات الثقافية، لانها الجهة المعنية بالصناعة الثقافية في سياقاتها الانتاجية والتسويقية والاستهلاكية، اذ تكون هذه المعطيات قرينة بوجود التشريعات القانونية التي تيسّر العمل وتعطي الغطاء القانوني للبناء الثقافي عمرانا واطرا وتسويقا، فضلا عن اقترانها بوجود المؤسسة التمويلية الحاضنة لديمومة الصناعة الثقافية، وعلى اسس واضحة، مهنيا ومؤسساتيا، وعلى خطط برامجية واقعية وقابلة للتنفيذ والديمومة، والتي تتلازم فيها كل اسس وفواعل هذه الصناعة، بوصفها صناعة غير نمطية وتقليدية، عبر ما تنتظم فيه مؤسساتها التخصصية من جانب، وعبر وجود خطط وطنية كبرى واستراتيجيات ترتبط بوجود مجلس اعلى للثقافة، مع وجود مؤسسات حقيقية للمجتمع المدني، ومراكز فاعلة للبحث العلمي في المؤسسات الثقافية الكبرى، وكذلك في الجامعات، مع وجود برامج ثابتة على مستوى التخطيط والتنظيم والتوسيع، وبما يعطي لهذه الصناعة هوية وطنية واضحة، وحضورا يرتبط بهوية الدولة، وبالهويات المتعددة التي يتكون منها المجتمع، وهو مايعطي لها ابعادا اجتماعية وتعليمية وتربوية واقتصادية وتنموية، من منطلق الاعتراف بمسؤولية هذه الصناعة الثقافية التي تنتج قيما مادية مثل(الكتاب، المسرح، الفيلم، اللوحة، والمنحوتة والاسواق الثقافية والمعارض وغيرها) وكذلك تنتج قيما رمزية له علاقة باشاعة الافكار والقيم الجمالية والمعرفية والتربوية التي تروج لها هذه الصناعة، عبر خطابها الثقافي، وذلك من اجل تكريس قيم الحرية والعدل والسلم الاهلي والتعايش وقيم المواطنة، وقطع الطريق على اي نهج مضاد- عابر للقوانين والحقوق- لاعادة تغويل السلطة عبر تغويل قيم معينة على حساب قيم اخرى..
وطبعا فإن هذا الاتجاه لا يمكن ان يتأصل ويتحول الى تقاليد معروفة ومكرسة، الاّ عبر خلق البيئات المناسبة والمهيئة لمواجهة الازمات التي تتضخم في واقعنا من خلال المصدات القانونية، ومن خلال مصدات تأصيل قيم العقلنة والنقد، لاسيما وان تاريخ هذه الازمات التي تضخمت في حياتنا الاجتماعية والسياسية ارتبط بما هو صراعي في التاريخ والماضي، وبالسلطة ومهيمناتها وصراعاتها..
ارتباط ازمة الهويات بالسلطة، يعني الحاجة الى فحص هذه السلطة، والى اعادة تأهيلها اولا، فضلا عن موضعة محنة الهويات عبر وجود سياق قانوني وحقوقي حمائي، كما ان ارتباط هذه الازمة بالتاريخ يعني ضرورة الوعي باشكالات هذا التاريخ بما فيها تاريخ السلطة والجماعات، من خلال تعزيز مؤسسات الحوار، عبر قوننة هذا الحوار، وتوسيع مدياته بعيدا عن رهاب التاريخ الصراعي والجماعاتي ذات المركزيات المرعبة والمعطل للحوار اساسا، لاسيما وان رهاب هذه الازمات تحول الى عمليات قارّة في القهر الاجتماعي، وعمليات ترسيخ للمركزة العنفية، بما فيه عنف السلطة والايديولوجيا والطائفة، وما هي ما يعني تعويق لانتاج الحواضن القانونية والمدنية مقابل العمل على ابراز ماهو عصابي وقرابي للحواضن الجماعتية والطائفية والتكفيرية، والتي تنظر لمفاهيم الدولة والحرية والديمقراطية والهوية والمساواة والحقوق نظرات مريبة، لانها لاتنسجم مع طبيعة افكارها القائمة على المركزة والاستبداد والعنصرية والتعالي، وهو ما يعني الحاجة اللازمة لاعادة نظر متواصلة الى منظومة السياسة والسلطة والجماعة، وعلى وفق عمليات تفكيك ممهنجة تقوم بها مراكز بحثية او مؤسسة مدنية مستقلة، لها ادواتها العلمية والمعرفية والتخطيطية، ولها برامجها ومرجعياتها ومعلوماتها القائمة على اساس تأمين الامكانيات والدعومات والبرامج وبالاتجاه الذي يمنح الصناعة الثقافية قوة حقيقية معززة بالخطط والبرامج والامكانات المادية واللوجستية النافذة..

علي حسن الفواز