يعتبر الناقد والروائي المغربي د. محمد برادة من أهم الأدباء في العالم العربي، حيث أنجز على مدى نصف قرن عشرات الأعمال الأدبية والنقدية ساهمت في تعزيز التواصل الثقافي بين المغرب والمشرق العربي، فضلا عن مساهمته بتأسيس اتحاد كتاب المغرب في ستينيات القرن الماضي وترجمته لأعمال كتاب كبار كجان جينيه وميخائيل باختين ورولان بارت وسواهم.
* بمناسبة صدور الترجمة الإسبانية لروايتكم «إمرأة النسيان»، ما دلالة هذه الترجمة في عمقها التاريخي الإيبيروعربي مقارنة مع ترجمة بلغة أخرى فرنسية أوأنجليزية أوروسية ؟
** أظــن أن مـهـمة الترجمة إلى كل اللغات هي واحدة: مــدُّ الجســور بـين الثـقافات والإسهام في تـفـعـيـل تـبـادل التــأثـيـر بين إنـتاجات الــفكر والـمخيـلة بــاتـجـاه بـلـْورة قـيم إنسانية، كونية تـوطّـدُ العلاقة بين الحضارات.
أما بالنــسبة لـلغة الإسـبانية، فيـسـرني أن تـسـعـفـني تـرجمة روايتي إليـها في الوصول إلى قـراء جدد تربطنا بهم قرابة كبيرة تتمثل بالموقع الجغرافي والتاريخ الـمشتـرك (خاصة في الأنـدلس) والجاليـة المغربية الكبيرة هناك.
وقد استـرعى انــتباهي خلال تـوقيع «امرأة النسيان» في طـبعتها الإسبانية أن بعض الذين قـرأوها أشاروا أثناء المناقشة إلى وجود تـشابُه بين وضعية الأحزاب عندهم والصورة «الـبارودية» (الساخرة) التي تـرسمها الرواية للحزب اليساري المغربي السائر نحو الانحدار وفقـدان المصداقية.
ونقطة الالتقاء هذه، تعود إلى الأزمة العميقة التي تعيشها إسبانيا نتيجة فشل تـعاظم عدد السـاخطين على اليمين واليسار، والبحث عن مستقبل يبدو مظلما بعد تعـثر مشروع الاتحاد الأوروبي، وتلاشي الثقة في السياسيـيـن الذين يقولون ما لا يفعلون.
لذلك فـإن السياق المتقارب بين وضعي المجتمعين، رغم تـباين الفترتين التاريخيـتين، جعل «امرأة النسيان» تلامس موضوعا مشتركا.
* قمتم بترجمة العديد من الأعمال الأدبية إلى اللغة العربية، ما هو إحساسكم بعد ترجمة أعمالكم للغات الأجنبية؟ وما الفرق بين المترجِم والمترجَم؟
** المترجِم يمارس نوعا من «الـحُـلول» المؤقتة في لغة الـمترجَـم له، مع الاحتفاظ بـسـِـماتٍ تلتصق بلـغته الخاصة ومنهـجه في تأويل النص والمعاني، وعندما لا يكون الـنص المـترجَـم «مفـروضا» على الـمـترجِـم، فـإن هذا الأخير يختاره لأنـه يـصادف هـوىً في نفسه، ويتـمنى في قـرارة نفسه لـو كان هـو مـَـنْ كـتـبـَـه.
أما عندما يصبح المـتـرجِـم متـرجَـما، فـإنه سـيكتشف أن نـصـــــه يـبـدأ حياة جديدة عـبْـر قـراء مجـهولـين لـديْه، لا يستطيع أن يـتـنـبأ بـردود فعلهم وطـبيـعة تلقـّيـهم.
بمعنى أننا عندما نـكتب بالعربية، يمكن أن نـستـحضـر (بصورة تـقريـبيـة) ذوق ومسـتوى القراء العرب المُحتملين؛ أمـا بالنـسبة لـلقراء الأجانب فـإن تخـمين نوعية التلـقـّي لديهم تكون غائبة عنـدنا، لأنـنا لا نكتب حسب مقايـيس تلائم أفق انتظار القراء الأجانب، ومن ثـمّ لا نـتـعرّف على تـلـقـّي «الآخـر» إلا بعد الترجمة وقراءة ردود فـعل النـقاد وتـقيـيـمهم للنصوص المترجَـمة.
* ما الذي يجعل بلدا رائدا في مجال الترجمة كالمغرب يتأخر عن الاحتفاء بمبدعيه عبر نقل أعمالهم الأدبية إلى اللغات العالمية؟
** لا أظن أننا دولة رائدة في الترجمة قياسا ببقية الدول العربية، لأننا لا نمتلك هيئة تضم جميع المترجِـمين في البلاد وتعمل وفق مخطط واستـراتيجية مـعلن عنها، بل إن الترجمة عندنا تخضع لمقاييس وجهود فردية وتظل في دائرة الــهواية.
وكانت هناك محاولة في تسعينيات القرن الماضي بالتعاون مع وزارة الثقافة لإنشاء هيئة المترجمين المغاربة وفـق خطة متكاملة لـتـعـزيز الجهود التي تـبـذل في الفضاء العـربــي الذي يسعى إلى تـدارك النقص المهول في مجال الترجمة؛ لكن المشروع أُقـبِـرَ وظلت المبادرات الفردية هي السائدة، وهي محدودة جدا قياسا إلى مـا يـنـجـزه المركز القومي في مصـر أو هيئات أخرى في الإمارات والكويت.
أمـا بالنسبة لـتـرجمة أعمال مغربية إلى لغات أجنبية، فـالمسألة لا تخضع لـرغبة ذاتية أو مبادرات فـردية، بــل هي مـتعلقة أساسا بـإرادة و»اختيار» دور النــشـر الأجنبية التي هي مؤسسات حـرة وتختار وفـق أذواق واهتمامات القـراء الأجانب الذين يقـتـنون الكتب ويتـيحون لدُور النشـر الاستمـرار.
لذلك فـإن تـرجمة أعمال أدبية مغربية بمبادرات فـردية لـن تـنجح في إقناع الناشرين الأجانب، وبالتالي لن تـُوفـّـق إلى تـسويق الكتاب المترجم وإيصاله إلى قـرائه المحتمـلين.
* هل تعتقد أن الروائيين النقاد أكثر امتلاكا لأدواتهم مقارنة مع غيرهم من الكتاب باعتبارهم يشتغلون على بنيات الرواية برؤية أكاديمية؟
** لا أعتقد ذلك، لأن الجودة تـعود إلى عـناصـر متعددة تـتـخطى المعرفة الأكاديمية والنـقدية، أبرزها: الموهبة والتجربة الحياتية الواسعة، وصوْغ رؤية إلى العالم تسـعف القارئ على فـهْـم مجتمعه بعيدا من النظـرة الوثوقية المسبقة.
يـضاف إلى ذلك، علاقة الروائي باللغة ومستوياتها المتعددة الكاشفة لخلفية الأفكار والمواقف المتحكمة في جـدلية المجتمع والعالم، وإذا اعتمدت رواية ما على وصفة أكاديمية جاهـزة، فـإنها قد تؤول إلى إنـتـاج نصوص بـدون نـكهـةٍ أو روح تزرع فيها الحياة.
لكن يجب التـنـبـيـه إلى أنه من غير المقبول اليومَ، أن يـزعم روائيٌّ أنـه يكتب اعتمادا على السـليقة أو التلقائية دون الالتفات إلى ما أنجـزه كُتاب كبار من قبله، لأنه لا مناص للروائي من استيعاب تاريخ الرواية العالمية والتمعن في الأشكال وطرائق السرد التي تكوّن معلما بارزا في منجـزات الرواية الكونية، من غير ذلك سيكون الروائي معرضا للوقوع في التكرار والعجز عن إيجاد الشكل الملائم لتجربته الروائية.
* بعد تجربة أدبية طويلة تمتد لسنوات، هل يمكننا الحديث عن ملامح مشروع روائي لديك يستند إلى خلفية نقدية من جهة، وعلى ذاكرة اجتماعية وثقافية وسياسية تحفر في ثالوث الذاكرة والموت والمرأة من جهة أخرى؟
** أنا لا أمـيل إلى استـعمال كلمة «مـشـروع روائي»، لأن الكتابة عـنـدي هي مـغامرة وتجـريب، ومن الصعب في هذا المضمار أن نتحدث عن مشروع محدد الملامح والأهداف، ربـما مع طول الممارسة تأخذ بعض المُكوّنات الروائية في الـتـبـلور والـطـفُـوّ لـتمـيّـز عالمي الروائي.
وقد أشـرتم إلى بروز اهتمامي بثالوث الذاكرة والموت والـمرأة، وهي عناصر تشغلني إلى جانب أخـرى دلالية وشكلية، فأنا أسعى إلى كتابة الذاكرة المختلفة عن محاكاة الواقع واستـنساخه، وأعـتبـر التعدد اللغوي وتعدد الأصوات عنصرا مهما في بناء عالم روائي متميـز وصوغ رؤية خاصة إلى العالم.
لكن، في الآن نفسه، أحاول التعامل مع جميع الـتـيمات والموضوعات على قدم المساواة، لأن الحياة لا تستـقيم إذا قـصَـرْناهَا على مجالات دون أخرى، بعبارة ثانية: العواطف والسلوكات والأفكار تــتجاور وتـتقاطع وتـتبادل التـأثـير، ولا يمكن أن نعزل السياسة عن الحب والجنس والوفاء والخيانة والشـر والخير، ولا التاريخ عن تجلياته المختلفة وطرائق فهمه وتأثـيره في الوعي والمصـائـر، يضاف إلى كل ذلك عنـصر التـخيـيـل الذي يوسع رحابة العالم، ويسمح بفهـْـم مـا يجعله الواقع مُـسـطـّـحا وفـاقِــدا للمعنى.
* دخلت الرواية العربية في السنوات الأخيرة في تجربة جديدة اصطلح على تسميتها بـ»الرواية الرقمية»، هل لديكم فكرة عن هذا الإبداع الأدبي الجديد؟ وهل من السابق الحديث عن تأسيس نظرية نقدية رقمية؟
** أتابع من بعيد وبخبرةٍ محدودة جدا ما يـجِـدّ في مجال الرقمية والنشـر الإلكتروني، وهي مسألة مهمة وستأخذ وقتا قـبل أن تفرض نفسها على عاداتنا وسلوكنا الثقافي (أنا وجيلي من الكتاب).
لكنني أظن أن تـغـيـّر وسائل التعـبير لن يمحوَ المقاييس الأساسية عند الـتقيـيم النقدي والفني، بعبارة ثانية: لا أظن أن غلبة الإبداع الرقمي ستؤدي إلى مَحـْو مقاييس الإبداع والجمال المغروسة في نفوس البشـر منذ عصور مغرقة في الـقِـدَم، وكل تحول في حوامل التـعـبيـر والإبداع قد يحمل عناصر إضافية في الاقتـراب من بلورة معايـيـر جمالية ذات طـابع إنساني كـوني، إلا أن هذا المجال لا يعرف إلــغاء الـلاحق للـسابق، كما الحال في العلوم.
* في ظل الحرب الباردة بين النشرالورقي والإلكتروني، ما هو شعوركم وسط غياب حميمية وملمس الورق واستبدال كتاب الجيب بجهاز كمبيوتر لوحي؟
** بالطبع هذه مسألة تـهدد عاداتنا القـرائية والتواصلية، إلا أنها نتـيجة طبيـعية لتطورات التّـقـانَة وعـولـمة كل مجالات العيش والاتصال، بالنسبة لي، أحاول أن استعمال الاثنين (الكتاب والكمبيوتر) حسب حاجتي إلى القراءة ونوعيتها، فألجأ إلى المنشورات الإلكترونية عندما يتعلق الأمر بمقالات إخبارية وصحفية أو معلومات عامة، أما نصوص الإبداع والفكر الفلسفي فأفضل الاعتماد على الكتب التي تتيـح التمهل والتمحيص وكتابة التعليقات والتساؤلات، ولا أظن أن الكتاب المطبوع سيتلاشى من فضاء الثقافة، لأن سحره وخصوصيته يمنحانه حق الاستمرار.
نقلا عن القدس العربي