تقول القارئة مها من السودان، وهي أيضا كاتبة لها محاولات في كتابة القصة لا تعرف إن كانت ناجحة أم لا؟ تقول في رسالة لي، إن الحي الذي تقيم فيه في الخرطوم، يشبه الحي الشعبي الذي أتخذه نموذجا في أعمالي عن المدينة، والشخصيات التي فيه، هي تقريبا الشخصيات نفسها التي قرأتها عندي، مثل شخصية المرضعة قارئة المصائر، والمغني الذي يمكث أربعين عاما ليلحن أغنية، والنساء البائسات اللائي ينتظرن أحبة لا يأتون، ويسقطن سريعا في فخاخ المحتالين، ثم وجهت لي سؤالا:
هل أقمت في حينا فترة من الزمن، لتكتبه بعد ذلك؟
سؤال القارئة مها، أعتبره سؤالا جادا وليس سؤالا ساذجا وخاليا من النكهة، وقد سألته بناء على معطيات وصفتها في الرسالة، لكن حقيقة أنا لم أقم في حيهم، ولا أي حي آخر في العاصمة، لأنني نشأت إقليميا، واستمررت إقليميا، حتى هاجرت من البلاد.
الذي يحدث في الكتابة الإبداعية، إنها تستنطق البيئات المحلية لأماكن ما، تستوحي شخصياتها وشوارعها، ولياليها وصباحاتها، وحتى روائح العطور التي تعبق في أجساد شاغليها. ولأن البيئة السودانية في مجملها بيئة واحدة، فلا غرابة في أن تتشابه جميع المدن في تلك البيئة، وتتشابه معظم الأحياء، خاصة تلك القديمة التي ما تزال تحافظ على كيانها خالصا بلا شوائب، ومن ثم لا غرابة أن يولد مجنون مثلا في حي ما، في مدينة ما، ويوجد نظير له في مدينة أخرى وحي آخر. أقول بصدق إن في كل حي تقريبا في أي مدينة من مدن السودان يوجد عدد من المجانين والمشردين، والمتسولين والعاطلين عن العمل، توجد بقالات يستدين منها الناس، وعربات «ركشة» تنقل الناس بين الأحياء. يوجد رجال عصبيون يصيحون في كل صغيرة وكبيرة، ورجال جادون يسعون لحل المشاكل. توجد نساء حزينات ونساء بائسات ونساء متطلعات، ويوجد أطفال بجميع السحنات تقريبا، وجميع الشخصيات، من الهادئة الخجولة، إلى المتمردة التي ستقود صاحبها يوما للضياع.
الشيء المهم هنا، أن مسألة تشابه البيئات هذه يمكن أن تنطبق أيضا على البيئات العربية أو الأفريقية كلها، بمعنى أن المجتمعات في البلاد العربية المختلفة، لها بعض الصفات التي تلتقي فيها، وقد قرأت ذلك التشابه في كثير من الأعمال الروائية العربية، ولم أستغربه، أيضا شاهدت بنفسي، أشياء كثيرة في أقطار عربية، كنت أعرفها من بلادي، الاختلاف هنا في التسمية ربما، أو في طريقة تناول المواضيع التي تخضع لاختلاف اللهجات، مثلا تستطيع بسهولة أن تجد رقصات شعبية مقابلة للدبكة الشامية، في بلاد أخرى، وتستطيع أن تقرأ الشخصية الواحدة، في كل البلاد، بلهجات مختلفة.
إذن كانت القارئة على حق حين عثرت على معارفها داخل نصوص تقرأها بلا أي خلفية عنها، وأنا أيضا على حق حين أقول بأنني كتبت أماكن أخرى، وكانت هي نفس المكان الذي حددته القارئة، لقد حكمت البيئة بذلك كما وضحت، والبيئة هي تربة النص التي ينمو منها محلقا إلى بعيد.
روائي سوداني