أفضل احتفال بالذكرى الثانية والستين لثورة 23 يوليو 1952 جرى صامتا في دار الرئاسة المصرية، فقد أقدم أمن رئاسة عبد الفتاح السيسي على سابقة موحية سياسيا، وقام بتفتيش وزير الخارجية الأمريكي جون كيري والوفد المرافق قبل دخوله للقاء السيسي، وهو ما يجسد معنى الكرامة الوطنية المصرية، التي لم تبال بمكانة وزير خارجية الدولة التي تتصور أنها ملكت الدنيا وما فيها، وظلت تتعامل مع مصر عبر أربعين سنة مضت كأنها مستعمرة أمريكية، وكان السلوك الخانع الخائف من الأمريكيين قاسما مشتركا جمع عهود السادات ومبارك والإخواني محمد مرسي، والذين اعتادوا طاعة أوامر أمريكا في المنشط والمكره، واعتادوا تلقي زيارات الأمريكيين كأنها هبات السماء، بينما أمن رئاسة السيسي يعامل كيري كأنه إرهابي محتمل، ويرغم الوفد المرافق له على إفراغ ما في جيوبهم للفحص، وبعد أيام قليلة من اعتذار الرئيس السيسي ورفضه قبول دعوة الرئيس الأمريكي أوباما لحضور القمة الأمريكية ـ الأفريقية المشتركة في واشنطن، بحجة أن الدعوة وجهت للرئيس المصري قبل أسبوع واحد من موعد انعقاد القمة، وهو ما رأت فيه الإدارة المصرية الجديدة سلوكا أمريكيا مستهترا بمكانة الرئيس المصري، وفضلت معه المشاركة في القمة الرئاسية بوفد يترأسه رئيس الوزراء، لا الرئيس المعتز بكرامة مصر.
ودعونا من تفسيرات اللحظة العابرة، أو الروايات الرسمية عن واقعة تفتيش كيري المسجلة بالفيديو، وتأملوا سلوك أمن الرئاسة المقصود سياسيا، وكأنه إشارة للأمريكيين بأن الزمن المصري تغير، وأنه يجري وصل ما انقطع مع زمن المجد المصري وقت ثورة القائد جمال عبد الناصر، الذي كان يتعامل بكبرياء عظيم مع الأمريكيين والغرب عموما.
وكلنا يذكر قصة وزير الخارجية الاسترالي الذي ذهب يهدد عبدالناصر عقابا على قرار تأميم قناة السويس، وما كان من عبد الناصر إلا أن أشاح بيده واقفا علامة على إنهاء المقابلة، وخرج المتعجرف «الاسترالي» منزيس مطرودا مدحورا، وأسقط عبد الناصر إبدن «الخرع» وجي موليه «الكذاب»، وأنهى امبراطورية بريطانيا التي كانت لا تغرب عنها الشمس، وقطع ذيل الأسد البريطاني في حرب السويس، وطارد الفرنسيين إلى حتفهم في حرب الجزائر، ثم كان ما كان من صدامه الوطني المصري والقومي العربي مع الأمريكيين، وإسقاطه لأحلافهم في المنطقة، ومطاردتهم في كل شبر عربي، ودعوته لهم لأن «يشربوا من البحر» إن كانت لا تعجبهم سياسة مصر الوطنية الثورية، وهو ما لم يغفره له الأمريكان، ووضعوا خطة حرب 1967 بهدف التخلص من «الديك الرومي»، وهو الوصف الذي كان يطلقه الرئيس الأمريكي جونسون على جمال عبد الناصر، ورغم فداحة الهزيمة والمؤامرة في 1967، فإن صمود الشعب المصري، وخروج ملايينه الأسطوري في 9 و10 يونيو/حزيران 1967، رفضا لتنحي عبد الناصر، ودعوته لقيادة المعركة، وإعادة بناء الجيش من نقطة الصفر، وهو ما جرى في زمن قياسي، وقبل أن يرحل عبد الناصر إلى رحاب ربه في 28 سبتمبر/ايلول 1970، كانت مصر جاهزة متأهبة للعبور ومعركة تحرير الأرض، ونجح جيش مصر عبد الناصر في عبور الهزيمة بالفعل، وقهر الجيش الإسرائيلي الذي كان يقال انه لا يقهر، ثم كان ما كان، وخانت السياسة نصر السلاح، وجرى الانقلاب على اختيارات الثورة والنهوض بعد حرب 1973، وجرى إخضاع مصر على طريقة «تسليم المفتاح» للهيمنة الأمريكية فالإسرائيلية، وبدعوى الرئيس السادات الذي قال ان 99٪ من أوراق اللعبة بيد أمريكا، ثم زاد مبارك نسبة أوراق اللعب التي في يد أمريكا إلى مئة بالمئة، وجعل من مصر صفرا كبيرا، ووقعت مصر فريسة للاحتلال الأمريكي السياسي والاقتصادي هذه المرة، وأصبحت سفارة أمريكا هي دار المندوب السامي الجديد، وهي القاعدة ذاتها التي خضع لها حكم الإخوان قصير العمر، وهو ما جعل الأمريكان يغضـــبون من زوال حــــكم الإخوان، ويشنون حروب الإعلام والسياســة والاقتصاد والمخابرات على إدارة الرئيس السيسي، الذي جاء من بيت العسكرية المصرية، الذي جاء منه جمال عبد الناصر، وتكون وعيه ووجدانه الوطني في زمن عبور هزيمة 1967، التي يتصور الرئيس السيسي أن آثارها ممتدة، وتفاقمت بعد انكسار ما بعد انتصار 1973، وأن مصر الراهنة لا تزال في حالة الحرب ذاتها، وهـــو ما يجعله يلجأ إلى دفتر الكرامة الوطنية، ويستدعي جمال عبد الناصر كمثل ملهم للوطنــــية المصــــرية، وفي ظروف شديدة الاختلاف عظيمة التعقيد، ومع إدراك أن نقطــــة البدء هي ذاتها، وأن استقلال القرار الوطني المصـــري هو مفــــتاح النــــهوض، وأن تكثيف الاعتــــماد على الذات الوطنــية هو طريق الخروج من زمن التسول والمعـــونات الخارجية، وهو ما يفسر لامبالاة السيسي بثرثرات البيت الأبيض ومناقشات الكونغرس الأمريكي، وتهديدات قطع المعونة العسكرية والاقتصادية، التي جرى تنفيذ بعضها جزئيا، وعلى طريقة التهديد بثنائية العصا والجزرة.
وقد لا يستبعد المراقب الحصيف أن تحتفي القاهرة بقطع المعونة المذلة نهائيا، فهذا ما يتيح حرية أكبر لاستقلالية القرار الوطني، ويساعد في تفكيك القيود التي فرضت على مصر مع عقد ما تسمى «معاهدة السلام والمعونة الأمريكية الضامنة»، وقد نجحت مصر بالفعل، وبدون ضجيج ولا إعلان، في تفكيك قيود الملاحق الأمنية المذلة لما تسمى معاهدة السلام، وجرى فرض وجود الجيش المصري على كامل سيناء، ودهس المناطق المنزوعة السلاح بمقتضى المعاهدة، فقد كانت سيناء منزوعة السلاح إلى عمق 150 كيلوامترا من الحدود المصرية ـ الفلسطينية التاريخية، ثم زالت المناطق المحرمة على السلاح المصري، وهو ما يفسر بعض التمهل المصري في إعادة بناء موقف جديد من التطورات الفلسطينية، فالأولوية المصرية الوطنية الآن لاسترداد سيناء فعليا، وفرض وجود الجيش المصري على كل شبر فيها، وتحطيم المجموعات التكفيرية الخادمة وظيفيا لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي ضمنيا في أول خطاباته بعد انتخابه، فقد تعهد بتعديل معاهدة السلام الشهيرة إعلاميا باسم اتفاقية كامب ديفيد، والرجل لا يطلب تعديلا، بل فرض التعديل على الأرض فعليا، فلن يعود الجيش المصري أبدا إلى التسليم بمناطق نزع السلاح، التي صارت خبرا من ماض كئيب، قيل فيه للمصريين ان سيناء عادت بمقتضى معاهدة السلام، وظلت الاحتفالات الكاذبة تقام على مدى ثلاثين سنة، وقبل أن تعود سيناء فعليا بنشر الجيش المصري على أراضيها كاملة، وعلى النحو الذي كان قبل هزيمة 1967، وبإزالة مناطق نزع السلاح التي ترتبت على هزيمة كان عنوانها معاهدة العار المعروفة خداعا باسم معاهدة السلام، فقد فرضت مصر الجديدة واقعا مختلفا على أرضها، وتبدو أقل اهتماما بمصالح ومطامح واعتبارات الأمريكيين والإسرائيليين، وهو ما يفسر خشونة تعامل المصريين مع الأمريكيين على طريقة إذلال كيري بتفتيشه أمنيا، وفي رسالة بليغة لمن يهمه الأمر، فعلى الذين يريدون التعامل مع مصر الجديدة أن يعرفوا قدرها، وأن يحذروا غضبها، وأن يتفهموا الأولويات المصرية الوطنية التي لا يعلوها أي اعتبار آخر، ولا تحني الرأس لأحد، سواء كان من الكبار المتجبرين من وزن الأمريكيين، أو من دول جوار استذلت العرب في غيبة مصر الطويلة، فمصر التي أنجبت جمال عبد الناصر قادرة على صفع وردع الكبار والصغار، إن هم جاوزوا الحد، وقد جاوز الظالمون المدى .
٭ كاتب مصري
عبدالحليم قنديل