في البداية، أي في سنة 1948، كان الفلسطينيون يطلقون عليكم الاسم الذي اخترتموه لأنفسكم، أي اليهود، وكانوا يسمّون الهاغاناه «جيش اليهود». لكننا، ومع نمو وعينا بالوجوه المختلفة للمسألة، قررنا ان نسحب كلمة اليهود من التداول، بما تحمله من امكانية ان تتضمن نزعة عنصرية لا سامية. أطلقنا عليكم اسم الصهاينة، لأننا اردنا اقامة تمييز واضح لا لبس فيه بين المشروع الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني وبين اليهودية كدين، واليهود كبشر تعرضوا للابادة في اوروبا النازية. وأطلقنا على دولتكم اسم الكيان الصهيوني، تعبيرا عن عدم قبولنا بنشوء كيان قائم على الجريمة التي طردتم عبرها الشعب الفلسطيني من أرضه. ولكن مع الزمن، ومع ما اعتقده بعضنا واقعية سياسية، تم سحب كلمة الكيان الصهيوني من التداول واستبدلت باسم دولتكم. فصرنا نقول في ادبياتنا اسرائيل والشعب الإسرائيلي، ثم اكتشف اكثر دعاة السلام منا استعدادا للاستسلام، انكم تشترطون اعترافا بيهودية الدولة، اي تريدون اعادتنا الى المربع الأول، ولكن بعدما وجدتم يهودكم فينا، وحولتم الفلسطينيين الى يهود اليهود الذين تمارسون عليهم كل بشاعات الفاشية وعنصريتها.
احترنا ماذا نسميكم، الى أن وجد جيشكم الاسم الملائم. فأنتم قتلة، ولا يجوز أن نطلق عليكم اسما آخر. فالذي يقتل أطفال غزة ويتلذذ بصور الضحايا وينتشي ببيوت غزة واكواخها المدمرة على رؤوس سكانها من اللاجئين الذين قمتم بطردهم من بلادهم عام 1948، ليس سوى قاتل سادي أسكره دم ضحاياه.
تعالوا نضع الكلام السياسي جانبا، ولنتكلم في جوهر الموضوع. فالسياسة هي احد أشكال تأويل الواقع، وانا لست اليوم في مزاج تأويلي.
أنتم لا تريدون لغزة سوى ما قاله اسحق رابين، بطل مذبحة اللد عام 1948، الذي قتله متطرف يهودي بسبب اتفاق اوسلو. قال رابين انه يتمنى لو يرمي غزة في البحر. ولأنكم لا تمتلكون مواهب انبياء التوراة، الذين استطاع احدهم شق البحر وحوله الى يابسة، فإنكم عجزتم عن رمي غزة في الماء فقررتم احراقها بالنار. والمسافة بين النار والماء هي مجرد طباق، كما يعلّمنا النُحاة العرب. حولتم غزة الى غيتو محاصر من كل الجهات، سيطرتم على قوته ودوائه ومائه وكهربائه، أغلقتم جوه وبحره وارضه، واذا بكم اليوم تولولون هلعا من الأنفاق. لا شك أنكم نسيتم أن مفخرتكم الوحيدة خلال المحرقة النازية، كانت انتفاضة غيتو وارسو، وأن ثوار الغيتو سبقوا فلسطينيي غزة بسبعين سنة في اكتشاف فضائل الأنفاق كسلاح لمقاومة الكراهية العنصرية التي حاصرتهم.
ما يجري في غزة له اسم واحد هو المذبحة، التي يمارسها هو جيش من القتلة والسفاحين.
قلت انني لا اريد ان اكتب في السياسية، لا لأنني لا استطيع قراءة البطولة والتضحية التي تصنعها فلسطين اليوم، بل لأنني أشعر بأن مذابح غزة تأخذني الى مكان معتم، وتثير في وجداني شعورا لا أعرف كيف اصفه.
والحق يقال انني امام صور مذبحتي الشجاعية ومدرسة الأونروا في خان يونس أحسست بالعجز عن البكاء. كلمة «عجز» ليست ملائمة، ربما كانت كلمة «ما بعد» هي الأكثر دقة. نعم ايها القتلة جعلتموني اشعر بانني صرت في مكان يمكن أن نطلق عليه اسم ما بعد البكاء.
هل تعلمون ماذا يعني أن يصل الناس الى ما بعد البكاء؟
البكاء يغسل العيون، انه ماء الماء الذي يروي عطش الروح. اما حين ينتهي البكاء، فمن أين نجلب الماء الذي نغسل به قلوبنا؟
خلال ستة وستين عاما من القتل المتواصل نجحتم في تجفيف منابع بكائنا. سال دمنا وسالت دموعنا ولم نرَ في عيونكم سوى وحشية الجبناء وانتقام المستبدين. جفت دموعنا لكن دمنا لم يجف. من الآن فصاعدا لن يأتي الدمع كي يغسل الدم، ستبقى دماؤنا بقعاً تتجدد مع كل جيل، الى أن تنتهي هذه المجزرة.
أضعنا ثلاثة أجيال في هذه الحروب التي فرضتموها علينا. وكنا مع كل جيل يأتي نعتقد أن أوان ايقاف هذه المذبحة قد ازفّ، وانكم ستستيقظون من سكرة العنف والوحشية.
وكنا على خطأ.
لن تستيقظوا ايها القتلة من سكركم بدمنا ونهبكم لوجودنا الا اذا ايقظناكم نحن وهزمناكم.
أقول لكم اننا على استعداد لأن نتابع المقاومة لأجيال مديدة مقبلة، وان ساعة الحساب سوف تأتي.
نعدكم اننا لن ننسى، أما الغفران فيحتاج الى عودة الدموع الى عيوننا، وهي لن تعود قبل أن يهزمكم هذا الشعب المشرّد الذي هتكتم وجوده.
هامش لغوي
أشعر بالتقزز وانا استمع الى بلاغة البلغاء ورطانة الشعراء وهم يمدحون الموت بالاستعارة والتشابيه المكررة.
لغة لزجة مصنوعة من قاموس اللغو، وأدب رديء يرثي ويبكي وينوح.
ماتت لغة البيان والفصاحة.
هذا الموت البلادموع يحتاج الى لغة حادة كالشفرة مروسة كالسهم، تقول أقل الكلام كي تصل الى معنى المعنى.
لغة عارية لا تتغطى بالكناية، ولا تتزين بالفصاحة.
لغة تصلح كي يتخاطب بها الموتى مع الأحياء.
لغة الألم في لحظة الألم.
لغة الحرية حين يصنع المقاومون الحرية بصمودهم ويأسهم وألمهم الذي يتحول أملا.
٭كاتب لبناني