لدينا قصص

اثنين, 2014-08-11 12:08

أذكر في حيثيات منح الرومانية هيرتا مولر، جائزة نوبل للأدب عام 2009، أن اللجنة ذكرت بأن من أسباب منحها الجائزة: إن لديها قصة ترويها. والمعروف أن تلك السيدة، ولدت ونشأت في ظل حكم نيكولاي شاوشيسكو، أحد أشرس ديكتاتوري شرق أوروبا، وإنها ما استطاعت أن تنجز، وتصنع لها اسما أدبيا، إلا بعد أن فرت من رومانيا إلى ألمانيا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
إذن، فقد كانت لديها قصة ترويها بالفعل، فلا بد من لكل كاتب ينشأ في بلد يحكمها شاوشيسكو، أن تكون لديه قصة طويلة، أكيد هي قصة الخوف والرعب، والحياة مقصوص الجناحين، في بلد لم تكن تمنح حق السفر، ورؤية العالم لأحد، ولا حتى حق التنفس بعمق، أو استخدام أي لغة ليست لغتها، ولو في السر، وقد قرأت رواية قصيرة لمولر ترجمت من ضمن مشروع كلمة الإماراتي الرائد منذ فترة، لا أذكر اسمها، ولكن أذكر الإدهاش الذي لازم قراءتي لها، منذ الصفحة الأولى وحتى انتهت، قصة عن مهاجرين رومانيين فارين من بلادهم لألمانيا، كما هو متوقع، قصصهم وهم يعيشون بذاكرات تحاول بقدر المستطاع أن تسقط زمن رومانيا القديم، وتنحت في المستقبل باحثة عن زمن الحرية الألماني القادم لا محالة بعد حصولهم على جوازات السفر. المهاجرون في وضع ساكن كما لو كانوا ما يزالون أسرى وطنهم السجن، الفقر ما يرال موجودا، العري موجود، لكن الجديد في الأمر، كان الأمل. ويبدو أن الكاتبة أرادت أن رترسم المجتمع الروماني المهاجر بقطاعاته كلها، فقد كانت تلك القرية التي أوت المهاجرين، تضم الشرائح كلها بالفعل، وتضم ألمانا يبدون متعاطفين أو محايدين في صحبتهم لضيوفهم.
أعجبتني لغة مولر كثيرا، هي لغة مميزة فعلا، يحتل الشعر جزءا كبيرا منها، بل يحتلها كلها، وهنا يبدو للحكي طعم آخر، العبارة التي لا تصف النوم العميق بأنه عميق، ولكن تقول: كان النوم بعيدا جدا، لن تدركه الكوابيس. وأنا شخصيا من اللذين اختاروا الكتابة بلغة الشعر، وبالتالي أحيي كل إبداع يمد يدا للشعر، وكل إبداع يدخل الشعر في طعمه.
هيرتا مولر كانت لديها قصة ترويها، جابرييل ماركيز كانت لديه قصة أيضا، وهي قصة تقترب من قصة مولر، من حيث نبش الديكتاتوريات، وإدانتها أدبيا، وتبتعد عنها حين تروى بالبهارات الماركيزية، التي تشمل السحر والأسطورة، والواقع الذي يشبه واقعنا ولا يشبهه وأنا لدي قصة مختلفة، أرويها بطريقتي أيضا، وغيري من الذين يكتبون، لا بد يتكئون على قصص، يتشوقون لروايتها أيضا. ويوجد في كل بلد، وكل مجتمع أشخاص يملكون القصص، ولا يستطيعون روايتها بسبب عدم قدرتهم على الكتابة، أو عدم معرفتهم للكتابة أصلا، ولذلك تجد دائما كتابا نشأوا في مجتمعات ما، تطوعوا لإيصال تلك القصص إلى الناس عن طريق حكايتها في نصوص أدبية، وقد حضرت مرة في الخرطوم، لقاء مع الكاتب العظيم: إبراهيم اسحق إبراهيم، الذي لا يعرفه الناس خارج السودان، مع الأسف، وكان من الذين كتبوا وما يزالون نصوصا ساحرة، شديدة الجمال والخصوصية. لقد وصف إبراهيم نفسه في ذلك اللقاء، بأنه مجرد عرضحالجي، يكتب ما يرويه الناس من دون أي تدخل، وقصصه عن آل عثمان، هي قصصهم هم، وإن كان ثمة ثواب فهو ثواب العرضحالجي.
طبعا هذا كلام رائع، لكن أكيد أن دور الكاتب كان أكبر من ذلك، فالعرضحالجي، يكتب القصة كما وردت من اللسان، والكاتب الموهوب مثل إبراهيم، يبهرها ببهاراته، فتخرج بالطعم المطلوب.
مما ذكرت، فإن العالم كله قصص، بعضها يروى لأنه بين يدي من يستطيع أن يروي، وبعضها يموت مع الذين يملكونه، لأن لا أحد منهم يعرف رواية الحكايات، وبعضها ينتشله أحدهم من مجالس السمر في القرى، أو الروايات الشفاهية التي يرددها الناس أحيانا، وكان في زمننا آباء وأمهات يقومون بمهمة الراوي الشفاهي لقصص وأساطير، تبقى في الذهن، وغالبا ما تثمر لدى من سيصاب بمرض الكتابة مستقبلا، وأزعم أنني استفدت كثيرا من ذاكرة أبي الفتوغرافية، حين كانت تنداح ذكريات موحية للكتابة، ومن موهبة أمي في الحكي التي أكدتني بالكثير أيضا. وقد ذكر أبي أن عاصر أشخاص كانوا يطوفون بالقرى، يتسولون الكرم من الناس، يمدحونهم أو يهجونهم بحسب الظروف، ويتناقل الناس المدح والهجاء بعد ذلك، قد ينقل كما هو وقد يضاف أو يحذف منه شيء.
الحكاية الشفاهية، في رأيي، هي عظم الحكاية المكتوبة، ومثلما يدهن الجدار الأسمنتي بالصبغة ليلمع، تدهن الحكاية المكتوبة، بصبغة الفن الكتابي حتى تلمع، وتنتشر وتصل إلى أبعد مكان. ولو كانت هناك جوائز تمنح للرواة الشفاهيين لحصل عليها نفر ليس بالقليل، في طول الدنيا وعرضها.
هيرتا مولر منحت نوبل لأن لديها حكاية، هذا أولا وأيضا لأن لديها أسلوب مميز لا يشبه أساليب الآخرين، والأهم من ذلك ما أردد دائما، إنه الحظ ساعة أن ينادي البع ليأخذوا جائزة، فهناك آلاف من المبدعين، لديهم قصص تروى بشكل بديع أيضا.
كاتب سوداني

أمير تاج السر