بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على محمد خاتم النبيين,
وبعد فيقول الفقير إلى رحمة مولاه محمد الأمين الشاه, إمام مسجد الخيف في مقاطعة تيارت بمدينة نواكشوط عاصمة موريتانيا, عفا الله عنه ونصره وعافاه:
إني لما رأيت المجتمع قد اختلط حابله بنابله, بفعل موجات التحلل والتغريب, وعضل الأولياء مولياتهم قد أصبح واقعا معيشا, والإجراءات والآليات التي من شأنها تحصين المجتمع وسد أبواب الفساد ضعيفة أو غير موجودة.. رأيت أن أقدم للناس عرضا عن مسألة بدت لي في غاية الأهمية و الحساسية, ألا و هي مسألة الولاية في النكاح.
والولاية أيها العزيز, حق شرعي ينفذ به الأمر على الغير جبرا عنه، وهي عامة و خاصة.
و قد اختلف العلماء في الولاية على النكاح, فمنهم من ذهب إلى أن الولي شرط في صحة النكاح، وبدونه يكون فاسدا.
ومنهم من قال إن الولاية في حق المرأة البالغة مستحبة، ومندوب إليها إذا كانت حرة عاقلة، سواء كانت بكراً أم ثيباً، وأن لها الحق في مباشرة النكاح أو التوكيل.
وقد استدل القائلون بالولاية في النكاح بأدلة من الكتاب و السنة منها:
- قوله تعالى من سورة النور: { وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ }
فهم يرون أن الخطاب بالإنكاح في الآية للأولياء على الأيامى, وإذا ثبتت الولاية على المرأة فلا تكون والية.
- واستدلوا بقوله تعالى من سورة البقرة:{ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ }
فخاطب الرجال بالإنكاح دون النساء، فكأنه سبحانه وتعالى يقول: لا تنكحوا أيها الأولياء مولياتكم من المشركين فدل ذلك على أن الولاية إليهم لا إلى النساء.
واستدلوا بحديث:
- « أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له»
- وحديث: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا المرأة نفسها، فإن الزانية التي تزوج نفسها»
- وحديث: « لانكاح إلا بولي وشاهدي عدل»
وذهبت طائفة من كبار الأئمة إلى أنه للمرأة تزويج نفسها من كفء.
فقال الزهري والشعبي والأوزاعي وأبو حنيفة وزفر وداود ابن علي إمام الظاهرية: إذا زوجت المرأة نفسها كفؤا بشاهدين فدلك نكاح جائز.
وقال عبد الرحمن ابن القاسم العتقي من المالكية: ليست الولاية في النكاح واجبة.
وقال ابن رشد الحفيد: لا يوجد دليل على وجوب الولاية في النكاح.
ومن أدلة هذه الطائفة:
- قوله تعالى من سورة البقرة: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
- وكذلك قوله عز وجل من نفس السورة: { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ }
فقد أسند إليهن فعل الإنكاح.
- وكذلك قوله تعالى: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف}
- ولقوله عليه الصلاة والسلام الثابت في الصحيح « الأيم أحق بنفسها من وليها »
- وبما أخرجه الدار قطني بسنده من أن رجلا ( جاء إلى علي ابن أبي طالب وقال امرأة أنا وليها تزوجت بغير إذني, فقال علي: ننظر فيما صنعت فإن كانت تزوجت من كفء لها أجزنا ذلك.)
- واستدلوا أيضا بما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه والطحاوي وغيرهما من طريق القاسم ابن محمد ( أن عائشة زوجت حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر ابن الزبير.)
ثم بينوا ضعف الأحاديث الواردة في اشتراط الولي وردوها برمتها.
- فحديث: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل.)
أخرجه بن أبي شيبة والإمام أحمد وأبوداود والترمذي وابن عبد البر في التمهيد والدار قطني....ولفظه عند أغلبهم (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)
وهو عند جميعهم من رواية ابن جريج عن سلميان ابن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعا.
قال الترمذي: وقد تكلم أهل العلم في حديث الزهري عن عروة عن عائشة.
وحكى ابن علية عن ابن جريج قال: لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره.
لذلك ضعفوا الحديث من هذه الناحية.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: والدليل على ذلك- يعني ضعف الحديث- أن الزهري لم يشترط الولاية, ولا الولاية من مذهب عائشة.
- وحديث (لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل)
هو عند الطبراني في الكبير من رواية ابن عباس وفي سنده الربيع بن بدر وهو متروك.
وفي مصنف عبد الرزاق من رواية عمران ابن حصين, وعند الدار قطني أيضا, ولكن فيه عبد الله بن محرر وهو متروك باتفاق أئمة الحديث.
وهو عند البيهقي وابن حزم في المحلى, لكنه عندهما موقوف على عمر.
ونجده عند البخاري ترجمة بمعنى أنه غيرمسنود.
وللحديث طريق آخر عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري تارة, وتارة أخرى مرسل عن أبي بردة بدون ذكر والده.
وبالجملة فلا حجة في هذا الحديث لضعفه واضطرابه.
- وحديث ( لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها).
أخرجه الدار قطني وابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهم من حديث أبي هريرة, وهو حديث فيه إدراج بل مشكوك في رفعه أصلا.
قال الحافظ البصيري في مصباح الزجاجة ( هذا إسناد مختلف فيه تارة يروى مرفوعا وتارة يروى موقوفا.)
قال ابن رشد في بداية المجتهد في باب النكاح: (لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولي في النكاح فضلا أن يكون في ذلك نص، فالآيات والسنن التي جرت العادة في الاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة....)
ثم يقررابن رشد أنه (لو قصد الشارع اشتراط الولاية لبين جنس الأولياء وأصنافهم ومراتبهم فإن تأخر البيان عن وقت الحاجة لا يجوز....).
وفي أحكام القرآن للقرطبي وعند تفسير الآية 221 من سورة البقرة, عن ابن خويزمنداد قال (اختلفت الرواية عن مالك في الأولياء, فقال مرة كل من وضع المرأة في منصب حسن فهو وليها سواء كان من العصبة أو من ذوي الأرحام أو الأجانب ...)
قال ابن عبد البر: (أما المرأة تجعل عقد نكاحها إلى رجل ليس بولي لها فيعقد نكاحها فقد اختلف مالك وأصحابه في ذلك, ففي المدونة قال ابن القاسم: وقف فيها مالك ولم يجبني عنها.)
الاستذكار لابن عبد البر ج 4. ص 319 نشر المكتبة العصرية ـ بيروت.
وإن تعجب فعجب كيف يميز أو يفرق بعض فقهاء المذهب بين نوعين من النساء:
1- (شريفة لها في الناس حال): فهذه لا تتزوج عندهم إلا بولي، ولا يتزوجها إلا كفؤ لها!.
2- (دنيئة ليس لها في الناس حال) وهذه تتزوج بلا ولي, ولا تشترط لها الكفاءة (لأن كل واحد كفؤ لها!)
ويقولون: إن الدنيئة هي السوداء والمعتقة! ...
راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. ج 3. ص 467 . نشر: وزارة الأوقاف القطرية.
والإشراف لابن المنذر. ج4 .ص 34 .
تأسيسا على ما سبق:
- ونظرا للتمايز الطبقي في موريتانيا وتكريس مبدأ الكفاءة بالنسب, المصادم لمحكم القرآن وصحيح السنة.
- ونظرا لضعف التشريعات في هذا الباب, وترهل وتعقيد وصعوبة الإجراءات القضائية.
- ونظرا للتفكك الأسري الذي يعانيه المجتمع, وتملص الكثير من الآباء من مسؤولياتهم. ونظرا لجنوح كثير من الأولياء عندنا إلى العضل لأسباب واهية.
- وأخذا بالقاعدة القائلة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
- ونظرا للمكانة المتميزة التي باتت تحتلها المرأة في مجتمعاتنا المعاصرة, حيث تبوأت مختلف المناصب: وزيرة ووصية على المؤسسات والعائلات والأفراد.
- ونظرا لخلاف الأئمة في المسألة, ورجحان أدلة القائلين بعدم اشتراط الولي في النكاح.
- ولأن التقيد بمذهب معين دون غيره, وحمل الناس عليه بشكل إلزامي خطل وخطأ مبين.
- فإني أنا محمد الأمين الشاه إمام مسجد الخيف بتيارت, أقول وبالله التوفيق:
- إن الأكمل والأحوط والأفضل أن يزوج المرأة وليها, لكن إذاعضل المرأة وليها أو غاب عنها, أو لم يكن لها ولي أصلا, فزوجت نفسها من كفء, بمباشرة العقد, أو وكلت رجلا من عامة المسلمين, وكان الزواج مكتمل العناصر الأخرى, أعني بشهود وصداق وتراض وسلامة محل وتوثيق..
فهو نكاح صحيح, علما أن الكفاءة بالنسب لا وجود لها في شرع الله, وإنما المعتبر الخلق القويم والقدرة على أعباء وتكاليف الزوجية.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
كتبه في نواكشوط, محمد الأمين الشاه, فاتح صفر1439-- 20 أكتوبر2017