كل تعبير أدبي هو شكل دال. ولأنه كذلك، فإنه يفرض غموضا على قارئه، ويأتي حالة معقدة، ومركبة، تستوجب خيارات منهجية لتفكيك التعقيد، وتليين الغموض. وتأخذ صفة» الدال» شرعيتها الوظيفية من الشكل الذي يأخذه التعبير، وهو يُنظَم مواده. لا يصنع المحتوى أدبا، ولا تمتلك الحالة والحدث والخبر قدرة إضفاء الأدبية على العمل، أي ما يجعل من عمل ما أدبا.
غير أن مفهوم «الشكل» لا يحسم في معنى «الدال»، ولا في درجة الأدبية، لأن تركيبة العمل الأدبي تأخذ أبعادا متداخلة ومتراكبة، وبالتالي، يصعب تحديد البُعد الذي من خلاله تتكشَف الدلالة. نتيجة لهذه الوضعية المعقدة للتعبير الأدبي، تعددت مناهج قراءته، وعبَرت مفاهيم تلقيه (شرح، تفسير، قراءة، تفكيك، تحليل، تأويل، مقاربة…) عن تعددية أبعاده، وانتشار دلالته في هذا التعدد وتركيبته. ولهذا، فإن مفاهيم تلقيه تأتي مختلفة فيما بينها، وأحيانا متناقضة (شرح، تفسير/ مقاربة). لكنه، اختلاف/ تناقض يعد وظيفيا، لكونه يُشخَص بعدا من أبعاد الأدب. إن التحديد المعرفي لـ «الأدب» ليس ثابتا، ولم يكن كذلك طيلة تاريخه، ولن يصبح مقيَدا في تعريف جامع مستقبلا، لأن طبيعته متحولة، حسب تحولات شكله. وبالنظر في المناهج الأدبية التي اشتغلت بالأدب، واقتربت منه، في محاولة لإنتاج وعي بدلالته، سنجدها تعبر من طريقة قراءتها عن مفهومها للأدب أولا، ثم وظيفة الأدب ثانيا. هكذا، تجلى الأدب من خلال تحديدات عديدة، حسب العلاقة بين نظامه وشكل قراءته.
وبالرجوع إلى نظرية الأدب، نلاحظ أن تاريخ النظرية- في مجمله- هو تاريخ محاولات الاقتراب من هذه الأبعاد، ودهشة هذا التعقيد، وسر هذا التركيب، وجوهر هذا الغموض. تعددت/ تنوعت المناهج وبقي الأدب حالة رمزية معقدة، كلما تطور شكلها، وتغير بناؤها، افترضت منهجا جديدا ومختلفا. الأدب تعبير إنساني، ونظام جمالي،أي طريقة في تشخيص مواد العالم، وتحويلها إلى حالة متخيلة، كيف إذن، يصبح ما ينتجه الإنسان من تعبير شيئا غير مفهوم، ويحتاج إلى معرفة ونظريات وأدوات إجرائية ومناهج لمحاولة الاقتراب منه؟!. فهل يعود الغموض إلى نظام الأدب، أم إلى القراءة باعتبارها زمنا غير ثابت؟!، وكيف تتأسس العلاقة بين الأدب وقراءته من أجل إنتاج خطاب يسمى نقدا؟! من الذي يختار الآخر؟! هل العمل الأدبي هو الذي يفترض/ يختار منهج تلقيه؟! أم أن المنهج هو الذي يسير نحو العمل بأسئلته وأدواته ورؤيته للأدب، ويفرض منطقه على العمل؟! أم أن العلاقة أعقد من ذلك؟!. هي أسئلة وإن شكَلت جوهر نظرية الأدب منذ أرسطو، إلا أن إعادة طرحها، والتفكير فيها يعود إلى الخطاب الذي بات سائدا، والذي يعبر عن علاقة التوتر بين الأدب والنقد، أو بتعبير أصح، بين الأديب والناقد، واتهام النقد لكونه لم يعد يرافق المستجدات الأدبية، وكذا التساؤل حول وظيفته اليوم، في ظل انتشار شكل جديد من القراءة، والتلقي له علاقة بالوسائط التكنولوجية. ونحن إن تأملنا النقاش، والتوتر بين الخطابين، سنجد أن الأمر لا يتعلق بالنقد، بقدر ما يتعلق بالقراءة باعتبارها فعلا مركبا من رؤية ومناهج وذاكرة لنظرية الأدب، وعند تحققه (الفعل) يُنتج خطابا معرفيا هو «النقد». من أجل توضيح الأمر أكثر، نعيد طرح المسألة على شكل أسئلة: لماذا لم نعد نقرأ ما يسمى بـ «نقد النقد»، أو ما يصطلح عليه البعض بـ « قراءة القراءة»؟! لماذا لم نعد نلتقي بدراسات تنشغل بتفكيك خطاب النقد؟! هناك هيمنة لتحليل النصوص الأدبية، خاصة السردية، مع عدم الاهتمام بتحليل هذه القراءات؟! هل شبه غياب خطاب نقد النقد يُلخَص علاقة التوتر بين الأدب والنقد؟! وهل الوقوف عند العمل الأدبي، وتحليله/ قراءته، دون الاهتمام بالقراءة منتوجا معرفيا وفكريا، يعبر عن ركود في حركة السؤال الفلسفي؟! وهل يعني ذلك، التنازل عن فكرة النظر في قيمة وحدود الفكر ومنهجه، لصالح التحجر الفكري؟! هل يعود ذلك إلى الاهتمام بالموضوع (الأدب) أكثر من الاهتمام بشكل التفكير في الموضوع؟! وهل يعكس ذلك تراجعا في نقد التفكير، مادام النقد يشكل خطاب التفكير في الأدب؟! ألا نعتبر ضعف الاهتمام بنقد النقد، أو قراءة القراءة من أسباب التوتر الحاصل بين حركة الأدب وفعل القراءة، مادمنا نشهد كتابات كثيرة قارئة للأعمال الأدبية، وإصدارات حول الرواية والقصة القصيرة والشعر، وباقي التعبيرات الأدبية، مع ذلك هناك شعور بعدم الارتياح، واستمرار الحديث عن أزمة قراءة، وغياب النقد؟! ألا نقرأ من شبه غياب نقد النقد وضعية القراءات الأدبية اليوم؟!.
تلك مجموعة من الأسئلة التي بطرحها، ندعو إلى تجديد النقاش حول العلاقة بين الأدب وقراءته.
يرى الناقد المغربي «رشيد بنحدو» في كتابه «جمالية البين- بين في الرواية العربية» أن معنى النص الأدبي «ليس وراءه، بل أمامه. إنه فينا وبنا نحن القراء» (ص13). يعلي الناقد «بنحدو» من أهمية القراءة/ القارئ في تحديده لمعنى النص، دون أن يعني ذلك، انغلاق النص على المعنى الواحد، إنما تركيز عملية البحث عن المعنى أو الدلالة، من خلال فعل القراءة، مؤشر على تعددية المعنى، أو بتعبير آخر، دلالة على دور القارئ في تشكيل أبعاد المعنى. وبما أن القراءة غير مستقرة، تبعا لتحولات أنظمة الأدب نفسه، فإن المعنى سيظل زئبقيا. وتصبح عملية البحث هي جوهر القراءة. ونتذكر هنا مفهوم «الذوق» الذي اعتمدته الذائقة النقدية العربية قديما، ووجدناه يعود إلى الواجهة مع النقد الأدبي الأوروبي في القرن السابع عشر، ليدل على الملكة الحسية والجمالية والفنية التي تجعل القارئ يميز عناصر الجمال في العمل الأدبي. التركيز على دور القارئ في تمييز جمالية وأدبية الأدب مسألة حاضرة بقوة في مختلف الطروحات النقدية منذ القديم إلى يومنا هذا، غير أنها تأتي بأشكال وصيغ مختلفة. وبالتالي، يبدو التساؤل حول علاقة الأدب بالقراءة اليوم، يتجه نحو الوضعية الجديدة للقارئ، والذي أصبح شريكا في إنتاج العمل، والنظر في مدى تحقيقه لمفهوم الشراكة. تلك قضية يبدأ الوعي بها بالاقتراب من خطاب «نقد النقد» أو «قراءة القراءة».
نحن لا نكتب شيئا نفهمه، حتى نستطيع فهم المعنى المسبق عن الكتابة. كما لا نملك الوعي بمسار تحقق رغبة ما نريد كتابته، لهذا يأتي المنجز شيئا مختلفا عما فكرنا فيه، ليتحول إلى لحظة إبداعية متخيلة تساعدنا على إعادة الوعي بذواتنا. كما أننا كقراء لا نقرأ النص مرة واحدة، منتهية في الزمن والمكان، بل كلما أعدنا قراءة نفس النص، صغنا قراءات جديدة، وقد تكون أكثر اختلافا من سابقتها. لأننا نتغير باستمرار، ولأن ذاكرتنا تتغير، ولأن قراءاتنا تتسع. يشكل عدم الثبات الصفة الملازمة لمختلف محطات صناعة العملية الأدبية، ومن هنا لا يستقيم المعنى الواحد، ولا تستقر الدلالة في بعد واحد. المعنى ليس حالة ثابتة أو وحدة منسجمة في قيمتها وشكلها، أو شيئا موجودا في مكان محدد يتطلب البحث عنه، والوصول إليه، وإنما هو حالة دائمة التشكل حسب مقتضيات نوايا المؤلف، وإجراءات الكتابة، وتأويلات القراءة. وبهذا تصبح رغبة الكتابة، وطريقة تحققها نصيا، وشكل تأويلها، وسيلة من وسائل بناء معنى ما، أو دلالة ما. الدلالة إذن تُبنى. هي غير موجودة باعتبارها شكلا قائما في ذاتها ولذاتها. يبدأ النص الأدبي موضوعا للقراءة، ثم يتحول إلى أداة لقراءة القراءة.
كاتبة واكاديمية مغربية