بين تفاحة آدم وتفاح هذه الأيام زمن غير معروف، وإن كان بعض العلماء قد أرجعوا ابتداء شوط الإنسان مع الحياة الى ملايين الأعوام، أو على وجه التحديد، أربعة ملايين عام حسب الامريكي كارل ساغان في كتابه الشهير عن الكون.
ليس مهما الآن متى نشأت الخليقة، إنما المهم هو: ماذا فعل التفاح بنا وبأجدادنا الذين لم يتمكنوا من مقاومته، ولم يفكروا ولو مرة واحدة بالتمرد عليه.
أحيانا أشعر بأن التفاحة كائن استعراضي احترف منذ زمن بعيد، اصدار النداءات الصامتة الناعمة التي توقع الناس في حبائله، من دون أن يند عنهم أي اعتراض أو احتجاج.
الأنكى، أننا نصدق الحكاية العتيقة ونحب التفاح ونضبط خطواتنا على إيقاعات الديجيتال في آن واحد! حتى أن بعض شركات الهواتف والكمبيوتر والألبومات الغنائية، تلجأ الى وضع صورة التفاحة المقضومة أو السليمة على شعارها المعتمد، بهدف جذب المتسوقين والمعجبين!
ترى، هل أدرك القائمون على تلك الشركات، ما لهذه الفاكهة الخطيرة من فتنة وقدرة على تسويق الغواية؟
لنعترف: للتفاح سلطة غامضة وصامتة رغم أننا تواطأنا على تجاهلها، بسبب اعتدادنا وزهونا بسلالتنا البشرية دون سواها، فالتفاحة استدرجت آدم كي يلتهمها، فكانت الطعم الذي أوقعه واوقعنا معه في فخ شقائنا الابدي: لقد تمكنت منه، وتسببت في إخراجه وسلالته من الجنة الى يوم الدين.
لو صبر آدم وتماسك لكانت الحياة افضل واجمل، ولو لم يوجد التفاح أصلا لما اضطر بنو الإنسان الى اللهاث في شعاب الحياة، لكنها مشيئة الله.
فرانز كافكا أصيب بالخيبة حين تأمل المسألة، فصاح بذهول: هنالك خطيئة رئيسية وحيدة اسمها نفاد الصبر، فبسببه طردنا من الجنة، وبسببه لا نستطيع العودة اليها، والتفاحة هي مبعث نفاد الصبر.
خلال قراءاتي لبدايات ظهور جنسنا البشري على هذه الأرض، تساءلت باستهجان عن السبب الذي منع الانسان الاول أو الثاني، أو ذريته من الأقوام البدائية التي سبقتنا الى الوجود، من التنبه إلى خطورة التفاح، والاقتصاص منه، ومحو اثاره عن وجه البسيطة، واجتثاث جذوره من عمق التراب تحسبا من عودته الى الحياة مستقبلا، اذ ان المسألة تتعلق بالثأر من كائن نغص عليهم نعمة الوجود!
لماذا لم يفعلوا ذلك؟ لماذا لم يقوموا بواجبهم السلالي هذا؟
اتراهم ارادوا اختبار قدرة أحفادهم على التماسك والصمود؟ ربما، لكن، طالما اننا من أولئك الأحفاد – مع الاعتراف بضمور عضلاتنا وتفسخ اراداتنا – فإن من حقنا ان نقاوم التفاح ونقاطعه، خصوصا انه لا زال ينظر الينا باستعلاء، فثماره لا تكبر الا اذا نمت في أماكن عالية، وبما يحقق لها فرص النظر إلينا من عل! ثم ان اسعاره ايضا مرتفعة ودائمة الازدراء لجيوبنا ومشاعرنا، وفوق هذا كله، فقد تمكن من تحويل الأطباء إلى مروجين لا يكفون عن تقديم نصيحتهم التقليدية لنا برتابة اكاديمية مشكوك في صحتها: ان تناول تفاحة واحدة كل يوم، يكفل لنا عقد سلام دائم وشامل مع الامراض طيلة حياتنا!
ومما يدعو إلى الحنق، ان التفاحة لم تكتف في حربها الناعمة معنا بتسخير سحرها للايقاع بنا، انما استطاعت الإيقاع بواحد من أهم علماء البشرية وعباقرتها، إسحق نيوتن، الذي أرغمته على اكتشاف قانون الجاذبية، حين سقطت عن شجرتها امام عينيه!
لنلاحظ هذا الكيد والتحرش الأنثوي السافر: لم تجد التفاحة وقتا للسقوط عن الشجرة إلا حين قرفص نيوتن تحت ظلالها!
مؤخرا اتيحت لي فرصة التشفي بالتفاح، فقد تنبهت إلى وجود تشوهات في مظهره، فالجزء السفلي من تفاح هذه الايام لا يخلو من التدرنات والبثور، كما ان معظمه معوج، كأنما تحتاج كل حبة منه الى عمليات تجليس، وجراحات تجميلية تضمن اعادتها الى سابق سحرها وغوايتها:
هل يشيخ التفاح؟
لا اتحدث هنا عن التفاح الرخيص المصاب بذات الرئة، ولا عن تفاحة نيوتن، انما عن كل انواعه المتداولة، بما في ذلك الامريكي اللماع، المستورد خصيصا للاستهلاك في بلدان عالمنا الثالث.
قبل أيام رأيت آدم الصغير يحمل تفاحة كبيرة، وحين سقطت منه، تدحرجت على الاسفلت بدلال اعادني الى بداية الخلق، واذ ركض ليلتقطها، اقبلت نحوه سيارة مسرعة، فجمد في مكانه، ربما اصيب بشلل حركي مؤقت حين سمع صخب الفرامل والعجلات التي كادت تسحقه، وربما سمع نداءات التفاحة التي وضعته أمام خياري تركها لمصيرها المأساوي، او التضحية بحياته من اجلها.
صحيح ان السيارة لم تجرؤ على سحقها، ولم تدهم الصبي، لكنني أكاد أجزم بأنه فكر بالتقاطها على الرغم من معرفته بفظاعة النتائج: أليس الطفل واحدا من بني آدم؟
لكن كيف غاب عنه ان التفاح لم يعد يستحق التضحية بعد ان هرم وشاخ؟
٭ روائي أردني
جمال ناجي