المهمة المزدوجة لأي أنطولوجيا هي الاختيار والترك، لأن كل اختيار يقتضي بالضرورة حذفا، لهذا فإن هذه المهمة التي تبدو سهلة هي في الحقيقة على درجة عالية من الامتِناع، لأنها لا تختبر فقط الذائقة والوعي، بل النّوايا ايضا. وحين تكون المختارات من لغة اخرى فإن الترجمة تضيف عبئا آخر، وقد تكون أنطولوجيا الشعر الفرنسي الحديث الصادرة حديثا بالعربية لجاك شارتبترو، ترجمة نور الدين الدامون مناسبة لاستدعاء أمثلة أخرى، تتفاوت من حيث المستوى والإحاطة البانورامية بالمشهد الإبداعي.
أول ما خطر ببالي وأنا أتصفح هذه الأنطولوجيا التي تشمل الشعر الفرنسي في القرن العشرين، هو غياب اسماء شعراء لا يمكن حذفهم بأي معيار، وفي مقدمتهم سان جون بيرس الذي استوجبت قارته الشعرية صدور معجم خاص بها، عن اسماء كائنات بحرية وزهور تماما، كما استوجبت رواية «يوليسيس» صدور معجم خاص بها بسبب الاشتقاقات الجريئة لجيمس جويس، وبالطبع لا يلام مترجم الأنطولوجيا على مثل هذا الحذف، أو التغييب، لكنه يلام في مجالات أخرى هي من صلب مهمته كمترجم، ولحسن الحظ فإن بعض القصائد التي قدمتها الأنطولوجيا سبق لها أن تُرجمت إلى العربية كقصائد يوجين غيلفيك التي ترجمها الشاعر شوقي عبد الأمير، وقدمها ادونيس، أو قصائد بول إيلوار وأراغون وإيف بونفوا وجاك بريفير وآخرين ! مما يتيح حدا أدنى من المقارنة، سواء من حيث الدقة او الحفاظ على الشحنة الشعرية، فالفرنسيون يسمون ترجمة الشعر خيانة، لكنها احيانا تصبح خيانة مشروعة، خصوصا إذا تذكرنا ما قاله الشاعر الألماني جيته حين ترجم نيرفال أشعاره إلى الفرنسية، فقد قال إن هذا الشعر هو الذي اراد أن يبدعه، اعترافا بفضل المترجم. وهو ما قيل أيضا عن ترجمة فيتزجيرالد الشهيرة لرباعيات الخيام، ولسنا هنا بصدد الحكم على مدى دقة الترجمة، لكن المتاح على الأقل هو الحكم على سلامة اللغة.
* * * *
قرابة مئة شاعر تحشدهم هذه الأنطولوجيا في كتاب متوسط الحجم، وهذا ليس اعتراضا بقدر ما هو تساؤل مشروع، والأمر في النهاية لا يتعلق بمترجم هذه المختارات إلى العربية، لكن ما هو من صميم عمله، تذكرنا به محاولات باتت معروفة في ترجمة الشعر، منها تلك التجربة الرائدة لجان روسلو في ترجمة قصيدة الغراب لإدغار الن بو فقد كتب عن رحلته في الترجمة ما يؤكّد ان الترجمة هي إبداع آخر وموازٍ وليست مجرد معرفة بلغتين، فالمعرفة وحدها لا تشفع لنقل الأمانة الإبداعية من لغة إلى أخرى، لهذا أتذكّر أن الصديق الراحل يوسف اليوسف غضب مني عندما كتبت عن ترجمته لبعض قصائد ت . س . اليوت، ومنها تلك القصيدة التي يقول فيها الشاعر بانكليزية سهلة ومتداولة، اقرأ معظم الليل وأذهب إلى الجنوب في الشتاء، لكن المترجم أضاف الهزيع الأخير من الليل إلى المقطع الأول، وأضاف عبارة أيمم شطر الجنوب إلى الشطر التالي، يومها قُلتُ، إن ما جعل اليوت اليوت ورائد حساسية حديثة هو ابتعاده عن معجم أيمم شطر الجنوب والهزيع الأخير من الليل، لأنه كان بشكل او بآخر ثورة على كلاسيكية أسلافه .
* * * *
لكل أنطولوجيا أسس ومعايير غالبا ما يوضحها صاحبها في مقدمة طويلة هي بمثابة إضاءة أولا، فلا بد للقارىء من معيار ولو تقريبي يشعر من خلاله بأن ما قدم له هو الأفضل بمقياس جمالي. ولدينا في الوطن العربي تجارب تستحق المراجعات في مجال الأنطولوجيا، سواء كانت شعرية أو قصصية، ففي الخمسينات والستينات من القرن الماضي وخلال الحرب الباردة كانت معظم المختارات التي تُقدّم باللغة الروسية تخضع للأدلجة، ويتصدّرها الواقعيون، فيما يوصف آخرون بأنهم على الشاطئ الآخر، أو أنهم تجريبيون، وأحيانا يصل الاحتكام الايديولوجي إلى تصنيف الإبداع طبقيا، لهذا لدى أي مراجعة لتلك الأنطولوجيات نفاجأ بأن العديد من الكُتّاب الذين اختيرت لهم نصوص قد توقفوا عن الكتابة، أو تفرغوا للنشاط السياسي، ولي تجربة في هذا السياق، فقد حاولت في نهاية الثمانينات من القرن الماضي إصدار مختارات شعرية وقصصية من الأدب الفلسطيني بالروسية، والتقيت الشاعر رسول حمزاتوف في منزله، والروائي جنكيز ايتماتوف في مجلة «الآداب» الأجنبية التي كان يرأس تحريرها، وحين طلبت منهما تقديم المختارات اشترطا بإصرار أن تكون للمختارات قيمة إبداعية في لغتها ولا تدين بشهرتها أو أهميتها لأي معيار آخر غير الإبداع، ويبدو أن رسول حمزاتوف وجنكيز ايتماتوف معا كانا على دراية بما يُترجم إلى الروسية من آداب العالم الثالث.
* * * *
بالعودة إلى أنطولوجيا الشعر الفرنسي خلال القرن العشرين أرى أن المترجم ليس شريكا في الاختيار والحذف، لكنه مطالب بحد أدنى من الإفصاح عن منهج الأنطولوجيا بلغتها الأم، أما أضعف الإيمان فهو سلامة اللغة، والإيحاء للقارئ بأن الشحنة الشعرية لم تُهرّب اثناء النقل اذا كان حرفيا، وعلى سبيل المثال لا يمكننا قراءة ترجمة جديدة لقصيدة الحرية لايلوار، او قصائد بريفير وغيلفيك بمعزل عن محاولات سبقتها، وحين ترجم اليوت ست مرات إلى العربية، علّق أحد الشعراء قائلا إن لدينا الآن ستة شعراء باسم اليوت، وقد يكون حاصل جمعهم أو لا أحد منهم على الإطلاق.
* كاتب اردني
خيري منصور*