وداعا للمعونة الأمريكية عبد الحليم قنديل

اثنين, 2014-07-07 17:41

تبدو القاهرة الرسمية لامـــبالية تقريــــبا بمناقشات المعونة في الكونغرس الأمريكي، وبعبث اللجان ذات الصلة في مجلس الشيوخ، التي تتصور أن بوسعها فرض كراسة شروط على صانع القرار المصري، في مقابل تمرير مبالغ المعونة السنوية المعتادة لمصر، مع احتمالات خفض 300 مليون دولار من المعونة العسكرية المقدرة بمليار و300 مليون دولار، وخفض 100 مليون دولار من المئتين وخمسين مليونا المقررة كمعونة اقتصادية .
لا مبالاة القاهرة لها أسبابها، فالحجم الكلي للمعونة بالغ الهزال، ولا يشكل رقما يعتد به في اقتصاد مصر بناتجه القومي الإجمالي السنوي الواصل إلى 2400 مليار جنيه مصري، أي حوالى 343 مليار دولار سنويا، ثم أن مبلغ المعونة على هزاله لا يتاح لمصر حق التصرف به، بل تجري التصرفات طبقا لأولويات المصلحة الأمريكية المباشرة، وهو ما يفسر مفارقة ما جرى عبر 35 سنة من انتظام المعونة الأمريكية، التي نزلت من إجمالي مليارين و300 مليون دولار، وضمنها رقم ثابت يدور حول المليار و300 مليون للمعونة العسكرية، نزل المبلغ الإجمالي إلى حدود المليار ونصف المليار دولار، بالخفض التدريجي للمعونة الاقتصادية منذ بدايات القرن الجاري، فيما ظلت أرقام المعونة الأمريكية لاسرائيل تتزايد، حتى وصلت رسميا إلى حافة الثلاثة مليارات دولار سنويا، رغم أن قصة المعونة ارتبطت في الأصل بما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وجرى تصويرها كضمان لاتصال سريان المعاهدة، التي عقدت في الأصل برعاية أمريكية، وجرى إبرام مذكرة تفاهم أمريكية ـ إسرائيلية، جرى إلحاقها بالمعاهدة بدون اتفاق مع مصر، وتنص المذكرة على التزام واشنطن بالتدخل ضد مصر في حالة الإخلال بالمعاهدة أو بملاحقها الأمنية، وهو ما يعني ببساطة أن المعونة المقررة لمصر كانت واحدة من سبل تحكم واشنطن في السلوك المصري، وإلى حد إلزام القاهرة بدفع نصف تكلفة القوات متعــــددة الجنســيات في سيناء، وهي تحت قيادة أمريكية، ووظائفها تتلخص في مراقبة التزام مصر بخرائط نزع السلاح في سيناء، فوق أن المعونة العسكرية كانت مجرد سبيل لتسويق السلاح الأمريكي، وتكريس الهيمنة على تسليح الجيش المصري، وبأسعار تفوق أسعار السوق، وبقيود ثقيلة على قطع الغيار، وبأسلحة متخلفة عن التسليح الأمريكي لإسرائيل بمئة خطوة على الأقل، مقابل امتيازات وأولويات العبور التفضيلي لبوارج وسفن أمريكا العسكرية عبر قناة السويس، فضلا عن إتاحة الأجواء المصرية لعبور الطائرات الحربية الأمريكية، وعلى نحو ما كشف عنه مكتب المحاسبة الأمريكي في واحد من تقاريره الشهيرة، فقد ذكر التقرير المؤرخ في يوليو/تموز 2006 حقائق صادمة، بينها أن مصر سمحت بعبور 861 سفينة وبارجة حربية أمريكية بعضها نووي بين عامي 2001 و2004، وسمحت في الفترة ذاتها بعبور 36 ألفا و553 طلعة عبر الأجواء المصرية لمقاتلات أمريكية ذاهبة بالدمار إلى أفغانستان والعراق.
وليس القصد هنا أن نستغرق في تفاصيل ما جرى، ولا في خطوط الطول والعرض التي فرضت مناطق نزع سلاح مصر في غالب أراضي سيناء، وإلى عمق 150 كيلو مترا غرب الحدود المصرية الفلسطينية التاريخية، فقد تآكلت مناطق نزع السلاح، وكادت تختفي كليا في العام الأخير، بعد الموجة الثورية الأعظم في 30 يونيو/حزيران 2013 التي أزاحت حكم الإخوان بعد حكم مبارك، وألغت مناطق نزع السلاح وسواها من القيود التي فرضت على مصر بنصوص معاهدة العار المعروفة باسم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، التي حرمت الجيش المصري من إنشاء الموانئ البحرية والمطارات الحربية بطول وعرض سيناء، وحصرت وجود الجيش المصري بفرقة مشاة ميكانيكية واحدة إلى شرق قناة السويس بمسافة 59 كيلومترا لا غير، وقد نجحت السياسة المصرية بعد ثورة 25 يناير 2011 في تقليص مناطق نزع السلاح، وتزايد نجاح التكتيك الوطني بعد 30 يونيو بالذات، وبدواعي مقاومة الظاهرة الارهابية المريبة التي استوطنت سيناء، وكادت تفصلها عن الجغرافيا المصرية خلال حكم الإخوان بالذات. صحيح أن عبور الجيش المصري تم على مراحل، وباتصال مع الجانب الإسرائيلي عبر القنوات الأمنية، وبإلحاح ضاغط من المصريين على أولوية دور الجيش في سيناء كلها، وبالذات في منطقة الشرق الملاصقة للحدود المصرية الفلسطينية التاريخية، التي كانت منزوعة السلاح العسكري كليا طبقا لنص المعاهدة.
وهكذا نجح التكتيك المصري في خداع الإسرائيليين، وفي إنجاز معركة التحرير الثاني لسيناء، فلم يكن من معنى لسيادة مصر الإسمية على سيناء، وكان لابد من ملء فراغ السيادة بالحضور الكثيف للجيش المصري، وبكافة أسلحته بما فيها سلاح الطيران، وهكذا تكونت حقيقة جديدة تماما على الأرض، ولم يعد بوسع أحد أن يتصور عودة الجيش المصري الزاحف في سيناء، ولا حصره من جديد في المنطقة المحددة بحسب المعاهدة شرق قناة السويس، وربما يفسر ذلك إشارة الرئيس عبد الفتاح السيسي في خطاب التعهدات إلى مطلب مصر في تعديل المعاهدة، والإشارة مفهومة إلى تغيرات لا رجعة فيها جرت على الأرض، وجعلت الجانب الجوهري في الملاحق الأمنية نسيا منسيا، وقد يكون صحيحا أن مصر الجديدة لا تنوي إلغاء المعاهدة، لكن الوقائع الجارية تشير إلى معنى التفكيك التدريجي للقيود التي فرضتها المعاهدة، خاصة أن المستجدات العسكرية على الأرض صحبتها مستجدات سياسية، فقد تقلص التطبيع الدبلوماسي ـ المنصوص عليه في المعاهدة ـ إلى أدنى حد، ولم يعد أحد يلحظ واقعة وجود سفير إسرائيلي في مصر، فلم يعد لإسرائيل دار سفارة في مصر بعد حرق مقرها على يد الشبان المصريين الوطنيين قبل أعوام، وصار السفير الإسرائيلي يأتي إلى مصر في غيمة سوداء، ويقيم في اللامكان رسميا، وفي منزل سري بحي المعادي ومن دون أن يجرؤ مسؤول مصري على استقباله علنا، وتقلص التواصل المصري الإسرائيلي إلى حدود الخرائط الأمنية السرية، وفي موضوعات تتعلق غالبا بتدخل مصر لصالح الفلسطينيين، فيما تواصل المخابرات المصرية بنشاط عملياتها لاصطياد جواسيس الموساد، وتلك كلها تطورات تضغط على أعصاب الجانب الإسرائيلي، وتثير حنق «اللوبيات» الصهيونية في دوائر صنع القرار الأمريكي، التي تبدو في مأزق غير مسبوق، وتجرب حظها باستخدام سلاح المعونة مجددا، وألعاب التهديد بتقليصها أو إلغائها، بينما تضغط إسرائيل ـ عبر مواقف علنية ـ على واشنطن للإبقاء على المعونة، والاقتراب أكثر من نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، وعلى أمل الإبقاء على المعونة كوسيلة تحكم في سلوك المصريين، فإسرائيل تدرك غريزيا أن أوضاعا كثيرة تتغير في المنطقة المضطربة بشدة، وأن مصر الجديدة تتطلع لدور عربي قيادي، قد يعني انسحابا مدروسا من صلاتها المتقادمة مع إسرائيل.
والصورة على هذا النحو تعني الكثير، فعودة الجيش المصري إلى سيناء بكثافة، ودهسا لمناطق نزع السلاح التي كانت مفروضة، هذه العودة تعني تغيرا استراتيجيا هائلا، يعيد مصر إلى خط المواجهة، حتى لو لم يكن في خطط مصر الراهنة أن تدخل حربا مع إسرائيل، لكن مصر تؤمن بالقوة الرادعة لجيشها العظيم، الذي يعود بحضوره الكثيف إلى خط الجبهة مع إسرائيل، تماما كما يذهب بالتحالف مع كتلة الخليج العــــربي إلى خط الجبهة مع إيران، فالمناورات العسكرية المشتركة مع السعودية جرى تجديدها وتوثيقها، ثم ذهب الجيش المصري إلى مناورات مشتركة مع دولة الإمارات، ثم إلى مناورات مشتركة مع مملكة البحرين على مرمى حجر من الشواطئ الإيرانية على الخليج العربي، ثم أن مصر تستعيد عمقها الأفريقي تدريجيا بخطـــط جديــدة، وتستدير ـ بعد الذهاب للخليج العربي ـ إلى مغربها العربي، وتقيم علاقة ارتكاز مع الجزائر، كبرى دول المغرب العربي، وتتأهب لأدوار تنتظرها في المشرق العربي، وفي وضع حل للمأساة السورية بالذات. قد لا تكون التفاصيل هنا مهمة بقدر مغزاها، فثمة دور مصري جديد في المنطقة، وثمة تحالف جديد بين قوة السلاح المصري و فوائض المال الخليجي، تتراجع معه دواعي الاحتياج إلى المعونة الأمريكية الهزيلة، وإلى السلاح الإمريكي بعد توسيع نطاق الصلات العسكرية مع موسكو وبكين، وفي عملية رسم لخرائط جديدة، يتداعى فيها الدور الأمريكي، وتتحول القوة العظمى الأمريكية إلى «خيبة عظمى» استراتيجية، ويصبح الابتعاد عن أمريكا وخيباتها غنما لا غرما، وهو ما يفسر لا مبالاة القاهرة بنقاشات المعونة الدائرة في واشنطن، بينما الرأي العام الوطني المصري يطلب إلغاء المعونة الأمريكية والتحرر من قيودها الثقيلة، فقد ودعت مصر الآن ـ أو تكاد ـ عصر المعونة الأمريكية المذلة.

٭ كاتب مصري

عبد الحليم قنديل