في ادبياتنا البلاغية فقط نقول بان الخلاف لا يفسد للود قضية، بينما واقعنا يقول بل يفسد المودة ويسيل الدماء ويشحن الأمة ضد بعضها بعضا بالعداء والكراهية والبغضاء، فمنذ قرون افسد اختلافنا المذهبي حياتنا وفرق الأمة لفسطاطين، كلا منهما يدعي بانه حق والآخر ضلال، ولازلنا وسنظل ندفع ثمنا باهظا ليس لهذا الاختلاف، بل لسوء تعاملنا معه ولعدم قدرتنا على التعايش به على قاعدة قوله تعالى «وجادلهم بالتي هي أحسن»، وابتعدنا عن نهج الدعوة الصحيح في قوله تعالى «وأدعو لسبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، فالله خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف لا لنتقاتل، فالاختلاف من سنن الحياة وطبيعة تعدد فهم العقول وليس سببا للتنازع والعداء.
اختلاف المذاهب رحمة كما يقال، ولكننا حولناه لعذاب ونار فتنة لازالت مشتعلة منذ قرون، ففهم الغوغاء والدهماء منا ان من يختلف معنا مذهبيا كافر قتاله يُدخِل الجنة، ومن هنا عشنا نتوجس من بعضنا بعضا، وانصرفنا بدلا من التعايش بسلام، ولله وحده الحساب، الى جعل كل منا وصي الله على الناس، يتحمل المسؤولية في ذلك علماء وفقهاء اوغروا صدور العامة بشحنهم مذهبيا ودفعهم لكراهية الاخر، وخطأ بعضهم انهم يفعلونه كرد فعل، وخطيئة البعض الاخر انهم يفعلونه كفعل، والنتيجة هي ما بتنا نراه اليوم من اقتراب اشتعال الحروب المذهبية، بعد ان تحول الخلاف من خلاف فقهي خاص بالعلماء لعداء مرير بين عوام المسلمين.
قبل سنوات جرت محاولة لما عرف بالتقريب بين المذاهب الاسلامية، وجرت اجتماعات بين علماء السنة والشيعة، وكان هناك أمل في إنهاء خلاف تاريخي بلا ضرر ولا ضرار، ولكن لم تجر سفنه برياح المودة، فسرعان ما انفض سامره بخلاف أعمق لتمسك طرف بأدبيات مذهبية هي غذاء الفتنة بكل اسف، ولا نريد لوم هذا الطرف الان، لان هدفنا أسمى من ذلك، هدفنا المسارعة لإطفاء الحريق الذى بات دخانه يتصاعد بقوة، وسوف يحرق الجميع معا ليقدمنا جميعا لقمة سائغة لقوى تتربص بنا الدوائر، فمن العبث والسخف ان يأتي بعد قرون من يريد الانتصار للحسين من معاوية رضي الله عنهما، او العكس «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون»، فليس منا من هو مكلف بذلك الا من يريد إيقاظ الفتنة فقط.
من يستطيع إخماد نار الفتنة التي تطل برأسها، ليس السياسيين بل العلماء والفقهاء من المذهبين، فهم من بيدهم الماء والنار معا، فان أرادوا إطفائها عليهم الاجتماع على كلمة سواء، تجرم كل ما يذكي الفتنة من قول او فعل او عمل، فترك الفتنة تتنامى سوف يتسبب في تكون جماعات الارهاب المذهبي، وهو فكر غاية في التطرف خال من التسامح والتفاهم شرابه الدماء وقوته الاشلاء، نعم ان مسؤولية وأد الفتنة هي على عاتق هؤلاء، لان كلمتهم مسموعة ومطاعة، وبدلا من إصدار فتاوى تصب في صالح الفتنة عليهم إصدار فتاوى تصالح تدعو للتعايش ونبذ الكراهية ونزع العداء، فالعلماء والفقهاء عليهم الدور الأكبر والاهم والأنجع وليس السياسيين، لان جوهر الخلاف مذهبي وليس سياسيا.
المطلوب اليوم وقبل فوات الأوان ان يتقدم علماء وفقهاء لهم مكانتهم وقيمتهم وكلمتهم المسموعة من كلا الطرفين السني والشيعي معا لإصدار فتوى موحدة وصارمة وواضحة الدلالة، بتحريم وتجريم كل قول او فعل يصب في إذكاء الفتنة، وإراقة دماء المسلمين تحت دعاوى مذهبية، والانضواء تحت راية اي جماعة تدعو للفتنة وحمل السلاح لهذا الغرض، والمس بالرموز الاسلامية من الخلفاء والصحابة.
هذه الأمور الأربعة متى اجمع على تحريمها من الطرفين والتزم بالتأكيد والتشديد عليها في الخطب والمواعظ اليومية والأسبوعية، سوف تحمينا جميعا من فتنة اكبر وافدح من تلك الفتنة الكبرى التي لم نتعلم منها بعد قرون من حدوثها، وسوف تسهم في لجم كل دعاتها وتجهض محاولات النفخ فيها لإحراقنا بأنفسنا وبايدينا، فنحن الان امام مفترق طرق مشحون بالتعصب الأعمى القاتل، وان لم يتدارك ذلك عقلاء العلماء والمرجعيات فالعاقبة وخيمة على الجميع.
٭ كاتب سعودي
نواف مشعل السبهان